الحلم والأناة والرفق
إن الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها الناس: اتقوا الله تعالى, واعلموا أن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم لِيُتَمِّمَ صالحَ الأخلاق. وكان عليه الصلاة والسلام خُلُقُهُ القرآن. ومن محاسن الأخلاق وصالحها, والتي حث عليها الشارع الحكيم, ثلاثُ خصال, مرتبط بعضها ببعض, وهي: " الحلم والأناة والرفق ".
قال تعالى: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ﴾ ، ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ , ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبدالقيس: ( إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ : الْحِلْمُ , وَالأَنَاةُ ). وفي صحيح مسلم أيضاً عن عائشة رضي الله عنها, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ ), وفي رواية: ( إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ ). فهذه ثلاث خصال متقاربة: الحلم، والأناة، والرفق.
أما الحلم: فهو أن يملك الإنسان نفسه عند الغضب، وهو من أشرف الأخلاق وأسماها. وهو من أعظم علامات رجاحة العقل, ورحمة الإنسان, وسعة صدره, وحنكته وبعد نظره, وبُعْدِهِ عن كل ما يفضي إلى العداوة والخصومة والقطيعة. قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. قال: ( لا تَغْضَبْ ).
قال شيخ الاسلام رحمه الله: " الحلم والصبر على الأذى والعفو عن الظلم أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة، يبلغ بها الرجل ما لا يبلغه بالصيام والقيام وهو من الخصال التي يحبها الله في عباده ". وينبغي للمسلم المبتلى بسرعة الغضب, أن يعلم بأن هذه الخصلة مقدور عليها, وذلك بمجاهدة النفس وضبطها فإنها سُرعان ما تنقاد النفس فيكون الحلم صفة ملازمة لها, قال صلى الله عليه وسلم: ( الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ ). فإيّاك أن تيأس وتظن أن الحلم غير مقدور عليه. ومما يُعين على التَحَلُّم ومجاهدة النفس في ذلك, معرفة أن الله تعالى يحب هذه الخصلة, ويحب أهلها.
وأما الأناة: فهو التأني في الأمور، وعدم العجلة، وألا يأخذ الإنسان الأمور بظاهرها فيتعجل، فيحكم على الشيء قبل أن يتأنى فيه وينظر. ويكفي في ذلك كله أن العجلة من الشيطان. فهي من أعظم أسباب الوقوع في الإتِّهامِ الباطِل, والقول في أعراض المسلمين بما ليس فيهم, والعَجَلَةُ من أعظم أسباب نقل الأخبار المكذوبة والشائعات التي سرعان ما تُصَدَّق ويتلقاها الناس على أنها حقائق, وهي من أكبر أسباب الوقوع في الخصومات, بل إن كثيراً من مشاكل الطلاق سببها الإستعجال وعدم التروي والنظر في العواقب. وهي أيضاً من أكبر أسباب اتخاذ القرارات الخاطئة التي سرعان ما يعقبها الندم. ومن العجلة أيضاً: العجلة في قيادة السيارة والتهور وعدم ضبط النفس أثناء السير. ومن العجلة أيضاً: استعجال استجابة الدعاء, والتي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها من أسباب عدم قبول الدعاء, حيث قال: ( يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: قَدْ دَعوْتُ ، وَقَدْ دَعَوْتُ ، فَلَمْ أرَ يُسْتَجِبُ لي ، فَيَسْتحْسِرُ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ ).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ،
عباد الله: وأما الرفق: فهو معاملة الناس بالرفق والهَوْن، وهو ضد العنف والشدّة، ويُراد به اليسر في الاَُمور والسهولة في التوصل إليها, وقد أكد الشارع الحكيم على هذه السجية الفاضلة والخصلة النبيلة, كما سمعتم في الأحاديث, بل بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن من حرم منه فهو محروم من الخير, حيث قال: ( مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ مُنِعَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ مُنِعَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ ). والرفق عام في الأمور كلها, مع الأهل والأولاد, والأصدقاء, ويكون أيضاً مع المرؤوسين, والطلاب في المدرسة, ومع المأمومين في المسجد, بل حتى مع البهائم. وهو متأكد في حق الدعاة والمفتين, والمسؤولين, وولاة الأمر. والإنسان إذا عامل الناس بالرفق يجد لذةً وانشراحاً، وإذا عاملهم بالشدة والعنف ندم، ثم قال ليتني لم أفعل، لكن بعد أن يفوت الأوان، أما إذا عاملهم بالرفق واللين والأناة انشرح صدره، ولم يندم على شيء فعله.
ويجب على كل من تولّى أمراً من أمور المسلمين, أن يتذكّر ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ ).
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنّا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلحْ لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم عليك بالكفرة والملحدين الذين يصدون عن دينك ويقاتلون عبادك المؤمنين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزلهم وزلزلِ الأرض من تحت أقدامهم، اللهم سلط عليهم مَنْ يسومهم سُوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
|