من أسباب التوفيق والنجاح (2)
18/ 7/1433هـ
الحمد لله الكريم الفتاح ، ذي الجود والعفو والسماح ، المجزل لمن عامله بالأرباح ، ولمن وثق به واتكل عليه بالكفاية والنجاح ، سبحانه فالق الإصباح ، وخالق الأرواح ، أحمده على نعمه التي تتجدد بالمساء والصباح ، وأشكره على ما صرف من المكروه وأزاح ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة بها للقلب انشراح ، وفرحٌ كلما نادى مناديه بعدها حي على الفلاح ، وأشهد أن نبينا محمدا عبدُهُ ورسولُهُ الذي أرسله ربه بالهدى والصلاح ، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه ما بدا نجم ولاح .
أما بعد : فيا أيها الناس اتقوا الله ، فإن تقواه خير زاد للفلاح (( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى )) وأجل وسيلة للفوز والنجاح (( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ )) ، وهي أوسع المخارج من المضايق ، وأنفع الوسائل لاستدرار الأرزاق (( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ )) . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )).
عباد الله : التوفيق والنجاح عطية من عطايا الرحمن ، وهبة من هباته العظام يهبها لمن يشاء من عباده ، تُطلب منه سبحانه وتُستجلَب بأسبابها .
ولذا كان تعلق القلب بالله الغني الحميد هو أساس التوفيق والنجاح .
وكل أسباب النجاح التي ذكرتها في الخطبة الماضية راجعة إلى التعلق بالله ، وأذكركم اليوم بأسباب أخرى : منها ما هو راجع إلى التعلق بالله ، ومنها ما هو أسباب طبيعية أرشد الشرع إليها .
فمن أسباب التوفيق والنجاح : التوكل على الله (( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )) وهو اعتماد القلب على الله ، وتفويض الأمر إليه ، وأن ينخلع الإنسان من حوله وقوته ويسأل ربه أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين ، فيعلن فقره لله وعدم استغنائه عنه في كل الأحوال ، ولسان حاله ومقاله : (( وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ )) ويقين قلبه : (( وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ )) وشعاره (( وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا )) ، ويُحذّرُ أشدّ الحذر من التعلّق بالأسباب والركون إليها .
فيا عباد الله : صدق التوكل على الله من أعظم الأسباب تأثيرا في تحقيق النجاح والكفاية من عوائقه . فلْيَقَرَ في قلبك قول الحق سبحانه : (( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ )) ، وليلهج لسانك دوما بـ ( حسبي الله ونعم الوكيل ) فقد قالها إبراهيم حين ألقي في النار فأصبحت عليه بردا وسلاما ، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب فانقلب هو وأصحابه بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء .
ولتعلم يا عبد الله أن لب التوكل : هو الثقة بالله القوي القادر القاهر ما دام أن الأسباب المشروعة قد بُذِلَت . وثمرة التوكل الرضا عن الله والرضا باختياره والتسليم لأمره .
ــ ومن أسباب التوفيق والنجاح : حسن الظن بالله ، فالله عند ظن عبده به، إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، فبقدر ما يحسن ظنك بالله يفيض عليك سبحانه من إحسانه ، قال سبحانه في الحديث القدسي : « أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء » ، وحسن الظن بالله يقوي جانب التوكل على الله في قلب العبد ، بل إن من العلماء من فسر التوكل بحسن الظن بالله .
ــ ومن الأسباب : التفاؤل وتوقع الخير دائما ، وهو من ثمرات حسن الظن بالله فبالتفاؤل تحلو الحياة ويعيش الإنسان بهجتها ، وكم للتفاؤل من أثر جميل في صناعة القرار الصائب الموصل للنجاح ، واختيار المسار المؤدي للتوفيق ، ولقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يحب الفأل ويعجبه ويكره التشاؤم وينهى عن التطير . فالمتفائلون دوماً هم الناجحون .
ــ ومن أسباب النجاح : بذل الجهد واستفراغ الطاقة والوسع في تحصيل المقصد والوصول للهدف ، والحذر من العجز والكسل ، قال صلى الله عليه وسلم : « احرص حلى ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز » والحرص المأمور به في الحديث هو بذل الوسع والاجـتهاد فـي طلـب القصد ، مع الاستعانة بالله .
فيا مريد النجاح : معالي الأمور لا تدرك براحة الجسم ، بل ببذل الجهد والكد قال الشافعي رحمه اللَّه :
بقـدر الكـد تكتسب المعالي
ومن طلب العلا سهر الليالي
تروم العز ثم تنام ليلاً
يخوض البحر من طلب اللآلي
ومن رام العلا من غير كد
أضاع العمر في طلب المحال
ويدخل في ذلك الحرص على إتقان العمل وإحسانه ، وقد وعد الله المحسنين بالإعانة فقال : (( وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )) وفي الحديث : « إن الله يحب من أحدكم إذا عمل العمل أن يتقنه » فلا ترض لنفسك بما دون الإتقان .
ــ ومن أسباب النجاح في الدارين : الصـبر ، « فما أعطي أحد عطاء خيراً ولا أوسع من الصبر » ، « والصبر بالتصبر ومن يتصبر يصبره الله » ، (( وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ )) لذا أمر به في القرآن الكريم كثيرا كقوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) ، ولم ينل من نال الإمامة في الدين إلا بالصبر واليقين . فاصبر على بذل السبب وانتظر الظفر (( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ )).
لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصَّبِرا
والصعب يدرك بالصبر :
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى
فما انقادت الآمال إلا لصابر
إنه النجاح ، بضاعة غلا ثمنها ، فعز طلابها ، ولكنها نعمت البضاعة . للنجاح لذةً وحلاوة ستغيب عنك معها مرارة الصبر ، للنجاح عرش لا يجلس عليه إلا الصُّبْر من الرجال . وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وبسنة سيد المرسلين ، ونفعني الله وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر الحكيم ، واستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله العلي القدير السميع البصير ، الذي أحاط بكل شيء علما وهو اللطيف الخبير ، علم ما كان وما يكون ، وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة يوم النشور ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن على طريقتهم يسير وسلم تسليما .
عباد الله :
ــ ومن أسباب التوفيق والنجاح : علو الهمة ، فكن كبير النفس، عالي الـهمة .
ــ ومن الأسباب : التجربة والخبرة ، فخض تجارب الحياة ولا يعيقك الخوف من الفشل والتعثر ، ولتعلم أنهما من وقود النجاح .
ــ ومن الأسباب : أن يكون لك اطّلاع على سِيَر النجاحين ، كيف بدأ الواحد منهم مسيرته ، وكيف تغلب على ما واجهه من عقبات ، وما الوسائل المشروعة التي أخذ بها ، وعلى رأسهم الأنبياء والمرسلون والعلماء والمصلحون والقادة الصالحون وغيرهم من الناجحين في جميع المجالات المشروعة ، فكم في قصصهم من العبر والعظات النافعة في السير للنجاح .
ــ ومن الأسباب : أن يكون لك ارتباط بالقرآن العظيم كتاب ربك الحكيم العليم ، تلاوةً وتدبراً لمعانيه وهداياته ، فهو موعظة وشفاء وهدىً ورحمة ، فيه أحسن القصص ، وهو أحسن الحديث ، يقول الله تعالى في وصفه : (( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ))، أقوم الطرق ، ويقول : (( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ )) ، ويقول : (( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ )) ويقول : (( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ )) .
كثيرة هي الكتب التي يشار عليك بقراءتها ، من كتب صناعة النجاح منها العربي ومنها الأعجمي المترجم ، ولا مانع من الاستفادة منها ، ولكن إياك أن تستغني بها عن كتاب الله ، فتحرم خيرا كثيراً ، فما في تلك الكتب من حق هو موجود في القرآن أو موجود ما هو خير منه .
ــ ومن الأسباب : أن تحب الخير والنجاح للآخرين كما تحبه لنفسك ، فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم : « لا يؤمن أحدكم حتى يحب أخيه ما يحب لنفسه »، فإيّاك والحسد للناس فليس الحسد من صفات الناجحين ، بل إن الناجحين هم الذين يأخذون بأيدي الناس ليسعدوا جميعاً ، فنجاح وسعادة من حولك أكمل في سعادتك ، وخير الناس وأنجحهم وأحبهم إلى الله وإلى الناس : أنفعهم للناس .
ــ وأخيراً يا طالب النجاح : إذا نجحت في أمر أو في مرحلة من المراحل ، فإيّاك أن يتسلل الغرور والعجب إلى قلبك ، فتترفع على الخلق وتحتقرهم وتراهم أقزاما أمام نجاحك ، بل لا يزيدك هذا النجاح إلا تواضعا للحق وللخلق وثناءً على الرب جل وعلا الذي وهبك هذا النجاح ، فالمتواضعون الحامدون هم الناجحون ، فأنجح الخلق صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس تواضعا ، وقال عليه الصلاة والسلام فيما أوحي إليه : « إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد » رواه مسلم . وكلما تواضعت ازددت رفعة ونجاحاً .
اللهم اجعلنا من عبادك الموفقين الناجحين يا أرحم الراحمين، اللهم افتح لنا من خزائن رحمتك وتوفيقك يا خير الفاتحين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وفقهاً في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إني أسألك خير المسألة وخير الدعاء وخير النجاح وخير العمل وخير الثواب وخير الحياة وخير الممات، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين واحم حوزة الدين وانصر عبادك الموحدين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم أنجِ المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين، اللهم فرج عن إخواننا المؤمنين في الشام، اللهم ارحم ضعفهم وتولَّ أمرهم واجبر كسرهم وعجّل بفرجهم ونفّس كربهم، اللهم أحقن دماءهم واستر عوراتهم وآمن روعاتهم اللهم وارحم ميّتهم واشف مريضهم وأطعم جائعهم واكسِ عاريَهم واحمل فقيرهم وثبت أقدامهم وكن لهم عوناً ونصيراً ومؤيداً يا ذا الجلال والإكرام يا حيّ يا قيوم، اللهم منزل الكتاب مجري السحاب هازم الأحزاب اللهم قاتل الظلمة المعتدين الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أولياءك، اللهم عليك بهم إنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل بهم نقمتك وأرنا فيهم عجائبك، اللهم إنهم آذونا في بلادنا وفي إخواننا وفي أموالنا، اللهم إنهم حاربوا دينك ومن تدين به ظاهراً وباطناً اللهم سلّط عليهم من يسومهم سوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم أنزل عليهم رجزك وعذابك إله الحق، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وبصّرهم بأعدائهم يا حيّ يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم فرّج هم المهمومين من المسلمين، ونفّس كرب المكروبين واقض الدين عن المدنين واشف مرضانا ومرضى المسلمين وارحم موتانا وموتى المسلمين يا أرحم الراحمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
|