التوبة والإنفاق
الحمد لله العليم القدير ، السميع البصير ، اللطيف الخبير ، }هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ { . أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه ، } لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، تعالى عن الند والضد والظهير } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، أصدق بشير وأخلص نذير ، صلى الله عليه وعلى آله واصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
اتقوا الله U بفعل أوامره ، والبعد عما نهاكم عنه ، فهو القائل U من قائل : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ { جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
يقول النبي r في الحديث المتفق على صحته : (( كان فيمن كان قبلَكم ، رجل قتل تسعةً وتسعين نفسا ، فسأل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على راهب )) الراهب ـ أيها الأخوة ـ رجل عابد كثير العبادة ، ولكنه قليل العلم ، (( فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسا ، فهل له من توبة ؟ فقال : لا ! )) لماذا قال هذا الرجل الراهب كثير العبادة : لا ! لأنه ليس عنده فقه في الدين ، هو مجرد عابد يعبد الله بكثرة ، منقطع لعبادة الله ، ولكنه ليس بفقيه ، ولذلك أفتاه بأنه ليس له توبة ، (( فقال : لا ، فقتله فكمل به مائة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على رجل عالم ، فقال : إنه قتل مائة نفس ، فهل له من توبة ؟ فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا ، فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى ، فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرضُ سوء ، فانطلق حتى إذا نَصَفَ الطريق أتاه الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب . فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله تعالى ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط ، فأتاهم ملَكٌ في صورة آدمي فجعلوه بينهم ـ أي حكما ـ فقال : قيسو مابين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة )) وفي رواية : (( فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر ، فجعل من أهلها )) وفي رواية : (( فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي ، وإلى هذه أن تقرَّبي ، وقال : قيسوا ما بينهما ، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فَغُفِرَ له )) .
أيها الأخوة المؤمنون :
ففي هذا الحديث فوائد عظيمة ، منها : أهمية التوبة ، ووجوب المبادرة بها ، وعدم تأخيرها ، ونحن ـ أيها الأخوة ـ في شهر يعين على التوبة ، بل هو ميدان التائبين ، وفرصة المستغفرين ، ففي الحديث قال جبريل ـ عليه السلام ـ للنبي r : (( من أدركه شهر رمضان فلم يغفر له فأبعده الله ، قل آمين ، فقال النبي e آمين )) . فرمضان ـ أخي المسلم ـ فرصة للتوبة ، وخاصة أن الشياطين مصفدة ، وأبواب الجنة مفتحة ، وأبواب النار مغلقة ، ولله عتقاء من النار في كل ليلة ، فتب أخي من ذنوبك ومعاصيك ، أقلع عن الذنوب واتركها ، واندم على فعلها ، واعزم على عدم العودة لها ، وأبعد عن البيئة الفاسدة إن كان يحيط بك شيئ منها ، وإذا كان عندك مظلمة لأحد من الناس رد ها إليه ، واعلم بأن الله U يقول : } قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ { . فالتوبة ـ أحبتي الله ـ فائدة مهمة من هذا الحديث العظيم ، اسأل الله U أن يتوب علينا جميعا .
أيها الأخوة المؤمنون :
ومن فوائده أيضا ، خطورة الفتوى بغير علم ، فهذا الراهب ، الجاهل في كثير من أحكام الشرع ، تجرأ على أن يفتي بغير علم وفقه ، فأهلك نفسه وكاد أن يهلك غيره !
ولذلك ـ أيها الأخوة ـ أمر الله U بأن لا يسأل إلا العلماء ، كما قال تبارك وتعالى : } فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ { وحذر U من يفتي وهو ليس من أهل الفتوى ، فقال تبارك وتعالى : } وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ { فالفتوى حسب الهوى والمزاج ، وما تميل له النفس الأمارة بالسوء ، مصيبة المصائب ، وليس كل ملتح ومشمر ثوب ، أهلا للفتوى ، وأنا أقول ذلك ، لأننا من باب حبنا للدين ، وحرصنا على الجنة وما يرضي ربنا ، وإحسان الظن بالناس ، يسأل بعضنا كل من هب ودب ، بشرط أن يكون ذا لحية طويلة وثوب قصير ، ولا يضع عقالا على رأسه ، وإحسان الظن بالناس أمر مطلوب ، ولكن عند الفتوى ، فقط أهل الذكر وهم العلماء ، وليتق الله أولائك ، الذين يبتلى الناس بهم ، فيسألونهم ، فتأخذهم العزة بالأثم ، فيفتون وهم ليس بأهل للفتوى .
فاتقوا الله عباد الله ، واحرصوا على التوبة في هذا الشهر الكريم ، وتقربوا إلى الله U بفعل الصالحات ، } وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ { .
اسأل الله U أن ينصر به دينه وكتابه وسنة نبيه وعباده الصالحين إنه سميع مجيب .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ r أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ )) .
فالجود في رمضان ، من خلق نبينا e ، ومن الجود الذي ينبغي للمسلم أن يعود نفسه عليه ، الإنفاق في سبيل الله تعالى ، يقول تبارك وتعالى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ ( ويقول أيضا : ) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( .
فهي دعوة صادقة، لنعود أنفسنا على الإنفاق، فهذا شهر الإنفاق، ولنعود أنفسنا على الجود ، فهاهو شهر الجود، ولنكن على يقين بأننا إذا أنفقنا فإنما ننفق لأنفسنا، هذا الذي تتصدق به على الفقير والمحتاج هو لك. يقول الله تبارك وتعالى : ) وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ( .
أيها الأخوة المؤمنون :
نحث على الإنفاق ، وندعوا إلى بذل المال ، وإلى الصدقة ، بل وإلى إخراج الزكاة ، حتى ولو كان قبل وقتها ، حيث أنه يجوز تقديم الزكاة وأعطاؤها من هو بحاجتها ، وبعض الناس في هذه الأيام وفي غيرها ، يكون في معاناة لا يعلم بمقدارها إلا الله U ، فهناك ـ أيها الأخوة ـ الفقراء والمساكين ، والأيتام والأرامل ، وأصحاب الديون ، وكذلك شريحةٌ من الناس تنتظرُ جودَكم وبِرَّكم زلّت أقْدَامُهُم فَحَادُوا عن الطّريقِ المستقيم ... فكانَ مَصِيرُهُم السِّجْن تأديباً لَهُم وإصلاحاً ، انْعَزَلُوا عَنْ أهْلِيهِمْ وأبنائِهم الّذين لا يَتَحَمّلُونَ أيَّ ذَنْبٍ ،كما قاَل تعالى } وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى { فهم يُعانونَ مِنْ فُقْدان عَائِلِهِمْ وَرَاعِيهِمْ ، فَهُمْ في حالتهم هَذِهِ أَشَدّ مِنَ الأْيْتام، لأنّ الْيَتيمَ مَعْلومٌ عنْد النّاس أنّ أباهُ قد مات فَيَعْطُفُونَ عليه ويَصِلُونَهُ، وأمّا هؤلاء فقد تكونُ النّظرةُ إِليهم نَظْرَةَ احْتِقارٍ وازْدِراء، وَنَظْرَةَ عِتَاب، وقد لا يُنْتَبَهُ لِحالهم فَيْهْمَلُونَ ، وهذا خطرٌ عظيم، فإنّ الأولاد لا يتَحمّلون أخطاءَ آبائِهم, ولا يجوزُ تحميلُهم إياها، ولا احتقارُهم، بَلِ الواجب النّظر إليْهم بِعَيْنِ الرّحمة والشفقةِ، ومواساتهم وتصبيرهم على مُصابِهم وتشجيعهم للخروج مِنْ مِحْنَتِهِم وتحذيرهم من العُزلة، ومحاولة خَلْطِهِم بالمجتمع الصالح الذي يستفيدون منه في دينهم ودنياهم، َوتَفَقّد احتياجاتِهم وتأمينها لَهُمْ، وإنْ كانوا من أهل الزكاة فَيُعطون منها، وكذلك تفقّدهم في المدارس، ومتابعتهم حتىّ لا تَزِلَّ بِهِمُ القدم والعياذ بالله فيما لا تُحْمَدُ عقباهُ.
ونحْن ومنْ هذا المنبرِ ندعو أهْلَ الْخَيْرِ، والْمَوْسُوريِنَ لِدَعْمِ مَناشِطَ وجُهودِ اللّجنة الوطنيّة لِرعاية السُّجناء وأُسَرِهِمْ بما يَحْفَظُ حَقّ الأُخُوّةِ الإيمانيّة ويُعَزّزُ أواصِرَ التّراحم بيْن أبناءِ المْجُتمع .
أيها الأخوة المؤمنون :
فاحرصوا ـ رحمكم الله ـ على ما يقربكم من ربكم ، وما يكون سببا في رفع درجاتكم ، وإعلاء منازلكم يوم القيامة .
أحرصوا ـ أيها الأخوة ـ على استغلال شهركم بما يليق بكم وبدينكم ، اجعلوا رضا ربكم هدفا أولا لكم ، والجنة مقصدا في أولويات مقاصدكم.
واعلموا يا عباد الله بأن الله U أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه ، فقال جل من قائل عليما : } إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً { وصح عنه e أنه قال : (( من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه وبها عشرا )) فاللهم صلّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك ورحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم واحمِ حوزة الدين، واجعل اللهم بلدنا هذا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا واستعمل علينا خيارنا واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين. اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار ، اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، وبعمل متقبل مبرور يارب العالمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله : } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ{ فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|