معالم التوحيد في شهر الصوم
إن الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد، أيها الناس:-
اتقوا الله تعالى وراقبوه, واعلموا أن التوحيد هو أساسُ دعوةِ الرسل, وهو إفرادُ اللهِ بالعبادةِ الظاهرةِ والباطنة. ولذلك نَجِدُ شَوَاهِدَهُ في العبادات التي أمر الله بها ظاهرةً جلية, خصوصاً أركان الإسلام, والتي منها: صيامُ شهرِ رمضان.
فإن مَعَاِلمََ التوحيدِ فيه ظاهرةٌ وواضحةٌ عند مَنْ تَأَمَّلَها:
أولها: الأمرُ بِالإخلاص وَاحتِسابِ الأجرِ في الصيام لِقوله عليه الصلاة والسلام: ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تَقَدَّم مِن ذَنْبِه ). وَمِن ذلك بَيَانُ أن الصائمَ قَد تَرَكَ الشهوات والمَلَذَّاتِ والمُفطِّرات تَقَرُّباً إلى الله, كما في الحديث القدسي: ( يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرابَه وَشَهْوَتَه مِن أَجْلِي ).
الثاني: المُرَاقبة, فإن الصومَ عِبادةُ السِّر, بِخِلاف غيرِه من أركانِ الإسلام. فهو سِرٌّ بين العبدِ وبين ربِّه. وبإمكان الشخص أَنْ يَتَظَاهَرَ بِالصِّيامِ وهو مُفْطِر, لأنه لا يستطيع أحدٌ أَنْ يَكْشِفَ صِدْقَه في هذا الصيام مِنْ كَذِبِه, ومع ذلك تَرَكَ المُفَطِّرات والشهوات والمَلَذَّات مِن أَجْلِ الله. وهذا يدل على الإحسان وتحقيق عبادة المراقبة.
الثالث: مِنْ مَشَاهِدِ التوحيدِ في صيام شهر رمضان, اشتِراكُ أَصنافِ المسلمين فيه. الغَنِيُّ والفقيرُ, والذكرُ والأنثى, والحُرُّ والمَمْلوك.
كُلُّهُم يَشْتَرِكون فيه, يجوعون جميعا ويعطشون جميعا, ويصبرون عن الملذات في وقت واحد وشهر واحد. يَتَوَحَّدُ فيه إمساكُهُم وإفطارُهُم الشهريُّ واليومي. حتى إنك لَتَرَى الغَنِيَّ الذي لا يَنْقُصُه شيءٌ مِنْ مُتُعِ الدنيا لا يستطيع أن يستمتع بِشيء مِنها وقتَ الصيام. كُلُّ ذلك لله وحده لا شريك له.
الرابع: أَنَّ شَهْرَ رَمضان اقْتَرَنَ بِحَدَثَيْنِ عظيمين كريمين على الأمة, حيث وقعا في شهر رمضان,
أَولُهُما: يومُ الفرقان, وَغزوة بدرٍ الكبرى التي فَرَّقَ اللهُ بها بين الحق والباطل, وَظَهَرَ فيها جُنْدُ الرحمن وأنصارُ التوحيد, على حِزبِ الشيطان وأنصارِ الشِّرك. وَبَدَأَ مِنْها طريقُ الجهاد بالسيف والسِّنان لِإِعلاء كلمة الله.
وأما الحَدَثُ الثاني: فهو فتحُ مكة, الفتحُ الأعظَم, الذي تَحَوَّلَت بِهِ مكةُ مِن دارِ الكُفْرِ, إلى دارِ الإسلام إلى قيامِ الساعة, وَأَنْقَذَ اللهُ بِه بَيتَه من بَرَاثِنِ الشرك وَأيْدِي المشركين, وَعَلَت رايةُ التوحيد في نَوَاحِيه, وأَعَزَّ اللهُ بِهِ دِينَه, ورسولَه وجُندَه وحِزْبَهُ الأمين, وهو الفتحُ الذي اسْتَبشَرَ بِه أهلُ الأرضِ والسماء, وأشرَقَ له وجهُ الأرض, ودَخَلَ الناسُ به في دين الله أفواجاً.
ولا يزال المسلمون الصادقون إلى يومنا هذا, كُلَّما تَذَكَّرُوه, تَحَرَّكَت قُلوبُهم, وارتفعت هِمَمُهُم, واستبشروا بنصر الله, وأيقنوا أن المستقبل لهذا الدين. خصوصاً عندما يعيشون بقلوبهم مع أفضلِ خلقِ الله وهو يطوفُ بالبيت ويكسرُ الأصنام ويتلو قول الله تعالى: ﴿ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ﴾, ﴿ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ﴾.
الخامس: مِن مَشَاهِدِ التوحيد في صيام شهر رمضان, التكبيرُ في آخرِ الشهر بعد إِكْمالِ عِدَّةِ الصيام الذي يَدُل على تعظيم الله, وَأَنه المُستَحِق للعبادة وحده دُونَما سواه. كما في قوله تعالى: ﴿ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم ؛ وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم؛ أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين, وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين, وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين, وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ, صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد عباد الله:
إنَّ اتحادَ المسلمين في اعتمادِ دخولِ شهرِ رمضانَ وخروجِه, واجتماعَهُم في العيد بَعْدَه يدل على عِظَمِ شأنِ الوحدة الإسلامية, وأهميتها وأنها من أعظم المطالب وفروض الأعيان, والتي يجب نشرُ أسبابِها, وبذلُها في الأمة, كي يتفقهوا فيها ويحققوها. وأن يكون ذلك أولََ خُطُوات الإجتماعات التي يعقدها علماء الأمة, وحكامها في مؤتمراتهم. وبيانُ أن الأمة يستحيل أن تجتمع أو تَظْهَرَ على غيرها إلا بتحقيق التوحيد ولزوم الكتاب والسنة والسير على ما كان عليه محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه. مع اليقين التام بأن الأمة يستحيل أن تجتمع وتَقْوَى وَتُرْهِبَ عَدُوَّها إلا بذلك. كما قال الإمام مالك رحمه الله: ( لن يَصْلُحَ أمْرُ هذه الأمة إلا بما صَلَحَ بهِ أَوَّلُها ).
اللهم ارزقنا تقواك, واجعلنا نخشاك كأننا نراك، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم وفقنا لما يرضيك عنا، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها صغيرها وكبيرها علانيتها وسرها أولها وآخرها، اللهم إنك عفوٌ كريم تحب العفو فاعفو عنا، اللهم إنك عفوٌ كريم تحب العفو فاعفو عنا، اللهم كما بلغتنا رمضان فارزقنا صيامه وقيامه إيماناً واحتساباً واجعلنا فيه من العتقاء من النار يا أرحم الرحمين، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا ضال إلا هديته ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرب إلا نفسته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا على قضائها ويسرتها، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين اللهم ألّف بين قلوب المسلمين وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام ونجهم من الظلمات إلى النور وانصرهم على عدوك وعدهم يا قوي يا عزيز، اللهم وفقّ وُلاة أمرنا لما يرضيك اللهم وفّقهم بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم من أنصار دينك, وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم حبّب إليهم الخير وأهله وبغّض إليهم الشر وأهله يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم نزلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
|