ذم الــدنــيـا
الحمد لله الغني الحميد , يبسط الرزق لمن يشاء من عباده , ويُعبد لكمال علمه وحكمته , أحمده على نعمه, وأشكره على فضله , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وسلم, وعلى آله وأصحابه, وأتباعه , أما بعد :
عباد الله :
الدنيا بما فيها زائلة , والآخرة باقية , فالسعيد من آثر ما يبقى على ما يفنى , والشقي من شقي في الدنيا, ونسي الأخرى, فلاقى ربه خاسراً .
أيها الناس : إن الله عز وجل حذرنا من الدنيا , فقال سبحانه :{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ {20}}الحديد.
وقال سبحانه:{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ {39}}غافر.
وقال سبحانه : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ {5}}فاطر.
وفي صحيح مسلم, من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" الدنيا سجن المؤمن, وجنة الكافر ".
وفي الصحيحين, من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بالسوق, داخلاً من بعض العالية, والناس كنفته _ أي حوله_فمر بجدي أسك ميت, فتناوله, فأخذ بأذنه, ثم قال:" أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء, وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حياً كان عيبا فيه لأنه أسك, فكيف وهو ميت!؟ فقال: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم "
وخطبنا عتبة بن غزوان رضي الله عنه, فحمد الله, وأثنى عليه, ثم قال :[ أما بعد: فإن الدنيا قد آذنت بصرم, وولت حذاء, ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء, يتصابها صاحبها, وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها, فانتقلوا بخير ما بحضرتكم, فإنه قد ذكر لنا, أن الحجر يلقى من شفة جهنم, فيهوى فيها سبعين عاماً, لا يدرك لها قعراً, ووالله لتملأن, أفعجبتم!؟ ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة, مسيرة أربعين سنة, وليأتين عليها يوم, وهو كظيظ من الزحام, ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ما لنا طعام إلا ورق الشجر, حتى قرحت أشداقنا, فالتقطت بردة, فشققتها بيني وبين سعد بن مالك, فاتزرت بنصفها, واتزر سعد بنصفها, فما أصبح اليوم منا أحد, إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار, وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً, وعند الله صغيراً, وإنها لم تكن نبوة قط, إلا تناسخت حتى يكون آخر عاقبتها ملكا, فستخبرون, وتجربون الأمراء بعدنا".
وقالت عائشة رضي الله عنها :" ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعاً من خبز بر, حتى مضى لسبيله ".متفق عليه.
وخطب النعمان بن بشير رضي الله عنه قال:[ ذكر عمر ما أصاب الناس من الدنيا فقال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي, ما يجد دقلاً يملأ به بطنه]. رواه مسلم
أيها الناس: إذا كان هذا حال سلفكم الصالح, وأنتم على هذه الحال, ألا تشكرون, وتحمدون , ألا تخافون, ولا تأمنون .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ {38} يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ {39}}غافر.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه, وسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم, واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب إنه تعالى كريم بر رؤوف رحيم0
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين . وبعد:
أيها الناس : لقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم على أمته التنافس في الدنيا , فحذرهم غاية الحذر من التنافس فيها , لأنها تجر إلى التقاطع, والتدابر, والتقاتل, والتناحر عليها .
فروى الشيخان, من حديث المسور بن مخرمة, أن عمرو بن عوف -وهو حليف بني عامر بن لؤي- وكان شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين, يأتي بجزيتها, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين, وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي, فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين, فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة, فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف, فتعرضوا له, فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم, ثم قال :" أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين, فقالوا: أجل يا رسول الله, قال: فابشروا, وأملوا, ما يسركم, فو الله ما الفقر أخشى عليكم, ولكني أخشى عليكم, أن تبسط الدنيا عليكم, كما بسطت على من كان قبلكم, فتنافسوها كما تنافسوها, وتهلككم كما أهلكتهم "
عباد الله: اتقوا الدنيا, واحذروها, ولا تعمروها, وتخربوا آخرتكم, خذوا منها متاعكم, ونصيبكم , واعمروا آخرتكم بالأعمال الصالحة .
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا يا رب العالمين، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم فقهنا في دينك وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا رب العالمين اللهم وفق ولاة أمرنا لما يرضيك واجعلهم من أنصار دينك وارزقهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الخير وجنبهم بطانة السوء يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا واكفنا شر الأشرار وكيد الفجار يا سميع الدعاء، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب الدعوات، اللهم أعزّ الإسلام، اللهم أعزّ الإسلام وأهله في كل مكان, وأذلّ الشرك وأهله, اللهم انصر دينك وأعلِ كلمتك, وأعذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, وصلى الله وسلم على نبينا ورسولنا محمد.
|