نعيم لا ينفد
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين
كفروا بربهم يعدلون ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ إله الأولين
والآخرين ، وخالق الخلق أجمعين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصفيُّه وخليله ،
وأمينه على وحيه ، ومبلِّغ الناس شرعه، ما ترك خيراً إلا دلَّ الأمة عليه ، ولا
شراً إلا حذّرها منه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد
فيا أيها المسلمون : اتقوا الله
فإن تقواه أفضل مكتَسَب، وطاعته أعلى نَسَب، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين).
أيها
المسلمون: لما كانت
الدنيا دارا للبليات والآفات والتنغيص، يقاسي فيها العبدُ طلبَ المعيشة، والكدّ
والتعب، وعروض الآفات والأسقام والمصائب، ومعاشرة الأوغاد وتزيين الشيطان وأهل
الفساد :دعا الجواد الرحيم العظيم عبادَه المؤمنين إلى جنته ودار كرامته، إلى دار
السلام والنعيم، إلى دار خالصة عن الغموم والهموم والأحزان والأكدار، سالمة من
المنفرات والآفات والبليات، (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي
مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم)، دار لا ينفد نعيمها ولا يبيد، دار فيها
من كل خير مزيد، أُعِدَّتْ وأُدنيت وَقُرِّبَتْ، وزُينت وأُزلفت كرامةً للمتقين،
لا يخشون فيها خوفًا ولا همًّا، ولا صخبًا ولا نَصَبًا، ولا يخافون فيها فقرًا ولا
دَيْنًا، ولا إخراجًا ولا انقطاعا ولا فَنَاء، (وَمَا
هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) [الْحِجْرِ:
48]، من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، ويناديه المناد:
“إنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإنَّ لَكُمْ أَنْ
تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا
تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا”
فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر (وَالْمَلَائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ
فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرَّعْدِ:
23-24]، تدخل عليهم الملائكة، وتفد عليهم الملائكة، وتسلم عليهم الملائكة، وتهنئهم
الملائكة، (سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزُّمَرِ:
73]، فما أعظم هذا التقريب والتكريم، في دار السلام والنعيم.
وإن الله
-تبارك وتعالى- يقول لأهل الجنة: “يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ
رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا لَنَا لَا
نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تعْطَ أَحَدا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ:
أَنَا أَعْطَيْكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبُّ، وَأَيُّ شَيْءٍ
أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ
عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا” (وَرِضْوَانٌ
مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ)[التَّوْبَةِ:
72]، أكبر من جنانها وأنهارها، وأجلّ من تحفها وقصورها وحللها.
أما
رؤية الله في الجنة: فتلك
الغاية التي شمر إليها المشمرون وتنافس فيها المتنافسون، وحرمها الذين عن ربهم
محجوبون، وعن بابه مطرودون، قال جل في علاه:)وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [الْقِيَامَةِ:
22-23]،
قال
ابن القيم -رحمه الله-: “هذا
وإن سألت عن يوم المزيد وزيادة العزيز الحميد، ورؤية وجهه المنزَّه عن التمثيل
والتشبيه، كما ترى الشمس في الظهيرة، والقمر ليلة البدر، كما تواتر عن الصادق
المصدوق النقلُ فيه، وذلك موجود في الصحاح والسنن والمسانيد، فاستمع يوم ينادي المنادي:
يا أهل الجنة، إن ربكم تبارك وتعالى يستزيركم فحيَّ على زيارته، فيقولون: سمعًا
وطاعةً، وينهضون إلى الزيارة مبادرينَ، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي
جُعِلَ لهم موعدًا، وجمعوا هناك فلم يغادر الداعي منهم أحدًا، أمَر الربُّ -تبارك
وتعالى- بكرسيه فنُصب هناك، ثم نُصبت لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من
زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضلة، وجلَس أدناهم -وحاشاهم أن يكون فيهم دنيء-
على كثبان المسك، لا يرون أن أصحاب الكراسي فوقَهم في العطايا، حتى إذا استقرت بهم
مجالسُهم واطمأنت بهم أماكنُهم نادى المنادي: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله
موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيِّض وجوهَنا؟ ويثقِّل موازينَنا،
ويدخلنا الجنةَ ويزحزحنا عن النار؟ فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نور أشرقت له الجنة،
فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبار -جل جلاله وتقدست أسماؤه- قد أشرف عليهم من فوقهم،
وقال: يا أهل الجنة، سلام عليكم، فلا تُرَدّ هذه التحيةُ بأحسن من قولهم: اللهم
أنتَ السلامُ، ومنكَ السلامُ، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام، فيتجلى لهم الرب
-تبارك وتعالى- يضحك إليهم ويقول: يا أهل الجنة، فيكون أول ما يسمعون منه: أين
عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني؟ فهذا يوم المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة:
قد رضينا فارضَ عنا، فيقول: يا أهل الجنة، إني لو لم أَرْضَ عنكم لم أُسكنكم جنتي،
هذا يوم المزيد فاسألوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أَرِنَا وجهَكَ ننظر إليكَ،
فيكشف الربُّ -جل جلاله- الحُجُبَ ويتجلى لهم فيغشاهم من نوره وَيَنْسَوْنَ كلَّ
نعيم عاينوه، ولولا أن الله -تعالى- قضى ألا يحترقوا لاحترقوا، ولا يبقى في ذلك
المجلس أحد، إلا حاوره ربه -تعالى- محاورةً حتى إنه ليقول: يا فلان، أتذكر يوم
فعلتَ كذا وكذا؟ يُذَكِّرُهُ ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: يا ربِّ ألم تغفر لي؟
فيقول: بلى بمغفرتي بلغتَ منزلتَكَ هذه“.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم؛ ونفعني وإياكم بما فيه من
الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل
ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على توفيقه وامتنانه، والشكر له على إحسانه وإنعامه،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبدُه
ورسولُه أفضلُ رسله وخاتمُ أنبيائه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً
كثيراً إلى يوم لقائه، أما بعد:
الله
أكبر، الله أكبر، ما أَجَلَّ هذا النعيم! وما أعظم هذا التكريم! يرون ربهم في
الجنة، يرون الله ذا الجلال والجمال والكمال، يرون إلها طالما عبدوه وسبحوه وهللوه،
وكبَّروه، وسجدوا له وعظَّمُوه، أيُّ لذةٍ وأيُّ متعةٍ وأيُّ نعمةٍ وأيُّ حياةٍ
وأيُّ سعادةٍ وأيُّ اصطفاءٍ واختيارٍ؟ يرون اللهَ الذي ما طابت الدنيا إلا بذكره،
ولا الآخرة إلا بعفوه، ولا الجنة إلا برؤيته، واحنيناه، واشوقاه إلى دار النعيم
التي يرى فيها الموحدون ربهم، يتجلى لهم ويضحك لهم ويُشرف عليهم ويَبْرُزُ لأهل
الجنة في كل جمعة، في كثيب من كافور فيكونون في قُرْب منه على قَدْر تسارعهم إلى
الجمعة في الدنيا، لا يزدادون نظرا إلى ربهم إلا ازدادوا كرامة وإحسانا.
أيها
المسلمون: هذه لذة
الخبر، فكيف بلذة النظر؟ لمثل هذا النعيم فَأَعِدُّوا.
اللهم إنا نسألكَ لذةَ النظر إلى وجهك والشوقَ إلى لقائكَ، في غير
ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار، اللهم اقسم
لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنتك، ومن
اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما
أحييتنا، واجعله الوارث منا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر
همِّنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا. اللهم إنا نسألك فعل
الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة
فتوفنا إليك، ونحن غير مفتونين، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك،
وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك. اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم
آمنّا في الأوطان والدور، واصرف عنا الفتن والشرور، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك
وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصارا لدينك واجزهم خير الجزاء على ما يقومون به من خدمة
للإسلام والمسلمين يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد
الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين.
اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ الوليد الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129 |