الحكمة من خلق الجن والإنس
الخطبة الأولى
الحمد الله الذي خلق الخلق لعبادته, وأسبغ عليهم نعمته؛ فأرسل رسله, وأنزل كتبه, وأوضح لهم طريق الرشد وأمرهم بالتمسك به, وبين لهم طريق الغي والظلال وحذرهم مغبتة.
أحمده حمداً كثيراً, وأشكره شكراً جزيلاً, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده, لا شريك له, في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته, وأشهد أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم, وعلى آله وأصحابه وأتباعه, ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أيها المؤمنون:
اعلموا رحمني الله وإياكم أن الله عز وجل خلقنا لأمر عظيم؛ وهو عبادته سبحانه وتعالى, قال تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {56} }الذاريات
وهذه العبادة لا بد أن تكون على ما شرعه الله عز وجل في كتابه, أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم, فحثنا سبحانه على الاعتصام بهما, وألا نحيد عنهما, وألا نطلب الرشد والفلاح من غيرهما, وأخبرنا سبحانه وتعالى؛ أن من أطاعه دخل الجنة, ومن عصاه دخل النار, وأن طاعة رسوله من طاعته, ومعصية رسوله معصية له سبحانه وتعالى.
ولكن أيها المؤمنون! هناك عوائق كثيرة تكون أمام المسلم عند محاولته عبادة ربه, العبادة التي يحبها سبحانه وتعالى,
وأهم هذه العوائق وأشدها خطراً؛
هو عدو أبيكم آدم عليه السلام الذي أخرجه من الجنة.
أيها المؤمنون:
إن هذا العدو عرف مصيره أنه من أهل النار, فطلب من الله عز وجل الإمهال إلى يوم البعث, قال تعالى:{ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {14} قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ {15} قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ {16} ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ {17} قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ {18} } الأعراف.
فاجتهد على أبناء آدم حتى قتل أحدهما الآخر, ثم زين لقوم نوح عبادة الأصنام حتى عبدوها وتركوا عبادة ربهم , وزين لقوم عاد معصية نبيهم , وزين لقوم صالح ذبح ناقة ربهم, وزين لقوم إبراهيم عبادة الكواكب, وإلقاءَه في النار, وزين لفرعون سوء عمله, وهكذا تتوالى القرون والأيام وهو لا يسأم ولا يمل, محاولاً تكثير جنوده من بني آدم, حتى يكونوا معه في نار جهنم والعياذ بالله, إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم, ونزل عليه الوحي من السماء, وحفظت السماء من كل شيطان مارد, فثارة ثائرته, واجتهد على قريش حتى هموا بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لهم في معركة بدر: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم, قال: { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ{48}}الأنفال.
ونصر الله عبده, وأعز جنده, وهزم الأحزاب وحده, فرجع خائباً يائساً أن يشرك مع الله غيره في هذه الجزيرة, ولكنه لم ييئس من بقية الذنوب, فوقع بالتحريش بين الناس, وبتحبيب الدنيا لهم, وبصدهم عن سبيل الله, فأجلب بخيله ورجله وصرفه, فأغوى وألهى, وأعمى وأضل, وله مداخل كثيرة على الإنسان؛
فمنهم من يتولاه ويجعله من حزبه, ومنهم من يغويه, قال تعالى:{ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {82} إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ{83}}ص.
ومنهم من يستزله, قال تعالى:{إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ {155}} آل عمران.
ومنهم من يكيد له, قال تعالى:{ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً {76}}النساء.
ومنهم من يزين له, قال تعالى:{ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {43}}الأنعام.
ومنهم من يوسوس له, قال تعالى:{ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ {20}}الأعراف.
ومنهم من ينسيه ذكر ربه, قال تعالى:{ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ {42}} يوسف.
ومنهم من يجعله عبداً له, قال تعالى: { يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً {44}} مريم.
ومنهم من يأمره بالفحشاء والمنكر, قال تعالى:{ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {21}} النور.
ومنهم من يخذله, قال تعالى:{ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً {29}}الفرقان.
ومنهم من يبعده عن الخير, قال تعالى:{ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {62}} الزخرف.
ومنهم من يستحوذ عليه, قال تعالى: { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ {19}} المجادلة.
إلى غير ذلك من مساويه ومخازيه التي لا ينجو منها إلا من عصمه الله.
وقد حذركم ربكم منه في جلِّ آيات القرآن :
وبين لكم عداوته ومهمته, قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {168}}البقرة.
وقال تعالى: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ {6}} فاطر.
وقال تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ {60}}يس.
وقال تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ {27}} البقرة.
وحذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم منه, ومن مكايده, وأخبرنا عن طرقه لأغواء الناس :
قال صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم" متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب كل عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان " متفق عليه واللفظ للبخاري.
لذا تجد أكثر المسلمين لا يشهد صلاة الفجر
وقال عليه الصلاة والسلام:" إذا كبَّرَ أحدكم أتاه الشيطان فقال: اذكر كذا ليفسد عليه بعض صلاته".
وقال عليه الصلاة والسلام: " إذا أمسيتم فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ" متفق عليه.
وأمر بقراءة آية الكرسي عند النوم؛ لأن من قرأها عند النوم لا يقربه شيطان حتى يصبح.
ومع ما ورد من الآيات والأحاديث التي تحذرنا من هذا العدو, ومن مكايده, لا يزال كثير من الناس يتولونه ويتولاهم, ويغويهم ويضلهم, ويقعد لهم بكل مرصد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ؛ أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد, عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
روى الإمام أحمد بسند حسن من حديث سبرة بن أبي فاكه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه: فقعد له بطريق الإسلام, فقال له: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك, قال: فعصاه فأسلم, ثم قعد له بطريق الهجرة, فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك, وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول, قال: فعصاه فهاجر, قال: ثم قعد له بطريق الجهاد, فقال له: هو جهد النفس والمال, فتقاتل فتقتل, فتنكح المرأة ويقسم المال, قال: فعصاه فجاهد, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن فعل ذلك منهم فمات كان حقاً على الله أن يدخله الجنة, أو قتل كان حقاً على الله عز وجل أن يدخله الجنة, وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة, أو وقصته دابته, كان حقاً على الله أن يدخله الجنة".
وهكذا أيها المؤمنون:
هو بالرصيد للإنسان على كل طريق خير, وقد تسلط في هذه الأزمان نظراً لكثرة جنوده وأعوانه, وكثرة معارفه ومزاميره, ووجد المدح والتأييد من بعض عوام الناس, فعندما يعجبون بطفل من أطفالهم قالوا هذا شيطان, وقد روى أنه يتعاظم حتى يكون كالجبل عندما يسمع مثل هذا الكلام, وبعض الناس لا ينادي أبناءه أو أهله إلا باسم الشيطان, فيقول: (ذهبوا شيطاني) يعني أبناءه (وأتى الشيطان) وهكذا فهذا مما يعجبه ويفرحه ويعزز موقفه وإغواءه .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ {27}}الأعراف.
|