الـحـســد
الحمد لله الذي خلق فسوى, وقدر فهدى, وأفقر وأغنى, ومنع وأعطىِِ, لا معطي لما منع, ولا مانع لما أعطى, له الحمد في الآخرة والأولى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله _صلى الله عليه وسلم_ وعلى آله, وأصحابه, وأتباعه, ومن اهتدى بهديه, واستن بسنته, صلاةً وسلاماً دائمين أبداً, أما بعد:
عباد الله :
اتقوا الله, واحذروا خصلة ذميمة, مهلكة لصاحبها في الدنيا والأخرى, ألا وهي الحسد: وهو تمني زوال النعمة عن الغير .
قال تعالى: { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ } النساء.
وقال سبحانه :{ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ {89} بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ {90}} البقرة.
وقال سبحانه:{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {109}} البقرة.
وقال صلى الله عليه وسلم : " لا تباغضوا, ولا تحاسدوا, ولا تدابروا, وكونوا عباد الله إخوانا, ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" متفق عليه.
وقال أيضاً: " دب إليكم داء الأمم قبلكم, الحسد والبغضاء, والبغضاء هي الحالقة, لا أقول تحلق الشعر, ولكن! تحلق الدين, والذي نفسي بيده, أو والذي نفس محمد بيده, لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا, ولا تؤمنوا حتى تحابوا, أفلا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم؟ أفشوا السلام بينكم". رواه أهل السنن. واللفظ لأحمد.
وروى عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم:" إن الحسد يأكل الحسنات, كما تأكل النار الحطب". رواه ابن ماجة.
أيها الناس :
إن الحاسد مريض القلب, ناقص الإيمان, قليل التوحيد, ضعيف التوكل, دب الحسد إلى سويداء قلبه؛ فحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله, وأول الحاسدين إبليس, حيث حسد آدم عندما أمر الله الملائكة بالسجود له, فأخذ يسعى في زوال النعمة, حتى أوقعه في الخطيئة.
وأول قتل حصل على وجه الأرض, كان بسبب الحسد؛ حيث حسد أحد ابني آدم أخاه عندما تقبل الله منه قربانه ولم يتقبل من الحاسد, فقتل الذي لم يتقبل منه, أخاه الذي تقبل منه.
وسرى الحسد في الأجساد من تلك الأفعال, وكما قيل : لا يخلو جسد من حسد, ولكن المؤمن يدفع الحسد, بالتوحيد, واليقين, والإيمان, فيعلم أن الله عز وجل يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر, ويعلم أن الله عز وجل يعز من يشاء , ويذل من يشاء , ويعلم أن الله -عز وجل- يرفع ويخفض, ويعطي ويمنع, ويقضي ما يشاء, ويحكم ما يريد, لا رادَّ لحكمه وقضائه وقدره, فيعطي ويمنع رحمته, ويعطي ويمنع نعمته, فله الحكمة البالغة سبحانه وتعالى.
فكلما قوي إيمان العبد بالله , زالت عنه هذه الخصلة المهينة, وكلما قل التوحيد في قلبه, وأمعن النظر في ملك الله , رأى ما لا يعجبه, ولا يحبه, ولا يرضاه, وما علم أنه مضاد لله في حكمه وشرعه وقدره , فحسد الناس على ما أعطوا.
والحاسد يا عباد الله! معترض على حكم الله, وقدره, وعطائه, وفضله, فالله يعطي, وهو يتمنى الزوال.
أيها الناس:
إن الحاسد مطية لإبليس, يركبه ولا ينزل عنه, فيزين له في نفسه الحقير, فيحسد الناس عليه, فضلاً عن تزيين الكبير, ومنهم من يحسد على الشاة والبعير, ومنهم من يحسد على العلم والفضل, ومنهم, ومنهم لا كثرهم الله.
والحاسد محترق القلب والفؤاد, يقلب نظره في منن الله وعطاياه السخية, فيعترض عليها, ولكنه لا يقدر على منعها, فتجده في ألمٍ وحسره, ونار وحرقة.
وكما قيل:
الحسد داء منصف, يعمل بالحاسد, قبل أن يعمل بالمحسود.
والحسد يؤدي بصاحبه إلى أن يكون عائناً, فيرى نعم الله,ويحسد عليها, فيصيب أصحابها بعينه المريضة المشؤومة.
فكم أصابت عين الحاسد من صاحب نعمة, وكم قتل الحاسد بعينه, وكم تسبب بمصيبة.
الخطبة الثانية .
حمد وثناء .
الحاسد لا يهدأ له بال, ولا يستقر له قرار, فهو منشغل بالناس, مهلك لنفسه, فليتق الله -عز وجل- المسلم, وليحذر هذا المرض الخبيث, وليدفعه بأسبابه التي منها:
توحيد الله عز وجل, وإخلاص العمل له, وإفراده بالعبادة .
ومنها: التوكل عليه حق التوكل, والاعتماد عليه سبحانه وتعالى.
ومنها: معرفة أسمائه وصفاته, بأنه الرازق الخالق, المعطي المانع, النافع الضار, القدير المقتدر, مالك الملك, بيده الملك, يفعل ما يشاء, ويحكم ما يريد, وأنه الحكيم الذي لا يفعل شيئاً, ولا يعطي ولا يمنع, إلا عن حكمة بالغة.
ومنها: سؤاله من فضله, فإذا أُعجب المسلم بشيء بَرَّك, وسأل الله من فضله إن كان خيراً.
ومنها: العلم بأن النفس أمارة بالسوء, فهي تأمر بالحسد والبغي.
ومنها: اشتغال المسلم بنفسه لنجاتها, واشتغاله بما يقربه إلى الله عز وجل, كما قال عليه الصلاة والسلام:" من حسن إسلام المرء؛ تركه مالا يعنيه " رواه ابن ماجة, والترمذي, وأحمد.
ومنها: توطين النفس على الخير, ومحبته للناس, وطرد وساوس الشيطان الخبيثة الجالبة للحسد, عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم :" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " متفق عليه .
بسم الله الرحمن الرحيم:
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ {1} مِن شَرِّ مَا خَلَقَ {2} وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ {3} وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ {4} وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ {5}} الفلق.
اللهم ألهما رشدنا, وقنا شر نفوسنا, وصلى الله على نبينا ورسولنا محمد.
|