"ومن
يستعفف يعفه الله"
من كلام السعدي رحمه الله
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مبارَكًا فيه، كما
يحب ربنا ويرضى، والشكر له على ما أوْلى من نعمٍ سائغةٍ وأسدى، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله،
وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله نجوم المهتدين، وصحابته الـغر
الميامين وسلّم تسليما كثيراً إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ: فأوصِيكمْ - عِبادَ اللهِ
- ونفسِي بتقْوَى اللهِ تعالَى؛ فتقوى الله خير زاد للنجاة يوم المعاد.
ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم،
أنه قال: «ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله».
هذا خبر منه صلى الله عليه وسلم، ووعد،
وترغيب في الاستعفاف، والاستغناء عن الخلق.
والفرق بين الأمرين فرق ما بين الوسيلة
والمقصود , فإن من استغنى بالله ورزقه، وما قسم له الله وأعطاه، ولم يلتفت إلى غير
ربه، وغير فضله وإحسانه: استعف عن الخلق، ولم
يعلق بهم قلبه، لا خوفًا، ولا رجاء، ولا طمعًا، ولا رغبة.
وهذه المرتبة أعلى المراتب وأشرفها.
ولهذا خلق الله العباد ليعبدوه وحده، ويطلبوا
الرزق والصبر منه وحده، ويعلقوا رجاءهم وطمعهم وسؤالهم بالله وحده، ويرضوا بقضائه وقدره،
ولا يعلقوا شيئًا من ذلك بالمخلوق، مع بذلهم الأسباب التي يدركون بها هذه الأمور الجليلة.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ومن يستعفف
يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله».
أي: من اجتهد على تحصيل العفة والاستغناء،
بحسب ما يقتدر عليه ويستطيعه من الأسباب، وبَذَل جهده وجاهد نفسه على ذلك؛ أعانه الله
ووفقه، ويسَّر له هذا الأمر الذي طلبه ورغب فيه، وبذل فيه مقدوره، لعلمه بمحبة الله
له، ولعلمه أنه بهذا يكسب الرزق الحقيقي، والمراتب العالية، فأراح الله قلبه من تعلقه
بالخلق، وأراحه من تشوش الأسباب وإتيانها على غير مراده، واطمأن قلبه، وحيي حياة طيبة
سعيدة.
فإنه لا أهنأ حياة ولا ألذ ممن قطع رجاءه
عن الخلق، واستغنى عما في أيديهم، ولم يتطلع إلى ما عندهم، بل قنع برزق الله، واستغنى
بفضل الله، وعلم أن القليل من الرزق إذا أكسب القناعة، خير من الكثير الذي لا يغني،
فليس الغني عن كثرة العرض، إنما الغني في الحقيقة غني القلب: غناه بالله وبرزقه المتيسر
عن رجاء الخلق وسؤالهم، والاستعباد لهم في مطالب الدنيا، والرضوخ لرقهم.
وهذه المرتبة العالية: كل يحب الوصول إليها،
والاتصاف بها.
ولكن أكثر الخلق متخلف عنها، غير عامل
بالأسباب الموصلة إليها، ولا متجرد من الموانع المانعة من تحصيلها، جهلًا وتهاونًا،
واشتغالًا بما يضر عما ينفع، وبالمراتب الدنيئة عن المراتب العلية.
إذن
فما هي الأسباب التي تنال بها هذه المرتبة الجليلة والمنقبة العالية الرفيعة
؟ فالجواب بقول النبي صلى الله عليه وسلم في نفس هذا الحديث، وهي قوله: «يستعفف»، و«يستغني»
أي: يسعى في ذلك، وفي طلبه، ويسلك كل سبب يوصله إليه.
فأول ذلك: مجاهدة نفسه على الاتصاف بذلك،
ثم سؤال الله والإلحاح عليه أن يعينه على الوصول إلى هذه المرتبة.
فإن من اجتهد، واستعان الله، وألح عليه
في السؤال، لم يخيبه الله، فإنه أمر بالدعاء، ووعد عليه الإجابة.
وإذا علم العبد أن الله تعالى عنده جميع
مطالب السائلين، وبيده خزائن الخيرات والبركات، وأنه ما يفتح الله من رحمة فلا ممسك
لها، وما يمسك فلا مرسل له.
وأن النعم كلها منه، لا يأتي بالحسنات
إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو، وأنه هو النافع الضار، المعطي المانع، وأن الخلق
ليس بيدهم من هذه الأمور شيء، وأنهم جميعًا - مهما كانت أحوالهم ومراتبهم - فإنهم فقراء
إلى الله في كل شئونهم.
من عرف هذا حق المعرفة، اضطرته هذه المعرفة
الجليلة الواصلة إلى القلب، إلى تعليق الأمور كلها على الله، وتعلق القلب به، وانقطاعه
عن الخلق، وعلم العبد أنه كلما قوي تعلقه وطمعه في فضله؛ أتاه من الخير والبركة وطيب
الحياة ما لا يخطر ببال.
ثم إذا علم حق العلم أن تعلق القلب بالمخلوق
يهبط بصاحبه إلى أسفل الدركات، ويجعله حقيرًا ذليلًا مهينًا مهانًا، وأن ذلك غير نافع،
ولا مفيد، بل ضره كبير، وشره مستطير, قال رجل يا رسول الله: دلني على عمل إذا عملتُه
أحبني الله وأحبني الناس ؟ قال : ازهد في الدنيا يحبك الله , وازهد فيما عند الناس
يحبك الناس . رواه ابن ماجه وحسنه الألباني
متى علم ذلك حق العلم؛ لم يركن إلى أحد
من الخلق، ولم يرجهم، ولم يملكوا عليه ضميره، حتى يكون أسيرًا لهم، عبدًا ذليلًا، يأنف
من ذلك كله..
فاللهم ارزقنا اتباع نبينا الكريم
ظاهرا وباطنا واحشرنا في زمرته واسقنا من حوضه واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين
أجمعين إنك أنت الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ علَى إحسانِهِ، والشكرُ
له علَى تَوْفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلَهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له
تعظيماً لشانِهِ، وأشهدُ أنَّ محمدا ًعبدُهُ ورسولُهُ الداعِي إلى رضوانِهِ، صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّمَ وعلَى آلهِ وأصحابِهِ.
أمَّا بعدُ: ومما يعين على الاستعفاف،
قوله صلى الله عليه وسلم لرجل أوصاه بوصايا، فقال: «واجمع اليأس مما في أيدي الناس».
أي: اعزم عزمًا مصممًا لا تردد فيه، على
انقطاع أملك وقلبك ورجائك عما في أيدي الناس .
فما أنفع هذه الوصية وأعلاها، فإن العزم
الجامع المصمم الذي لا تردد فيه، خير آلة ووسيلة لإدراك جميع المطالب.
والخلل يأتي: إما من عدم العزم، أو من
ضعفه وتردده، أو من عدم ثبوته واستمراره.
فمتى عزم على قطع أمله من الناس، وقطع
استشراف قلبه وسؤاله لهم؛ حصلت له العفة التامة والغني التام.
ومتى رأى نفسه مفتقرة إلى ما بين أيديهم،
متلفتًا إليه المرة بعد المرة، فإنه لا يزال يفتقر مفتقرًا إليهم، ذليلًا لهم، خاضعًا
لهم، وذلك هو الخسران المبين.
ومن أيس من شيء، استغنى عنه.
ومما يوجب للعبد الاستعفاف والاستغناء:
علمه بأن افتقاره إلى الخلق وتعلقه بهم، واستشراقه لما بين أيديهم، أو سؤالهم؛ يجلب
لهم الهم والغم، والكدر والقلق، وأن استغناءه عنهم، وعدم تعلقه بهم؛ يوجب راحة القلب
وروجه وطمأنينته.
ثم إنه، كلما قوي طمع العبد بالله، وقوي
رجاؤه لربه، وقوي توكله، يسر الله له كل عسير، وهون عليه كل صعب، ورزقه من حيث لا يحتسب،
وكفاه الهموم كلها، وكسب الحرية الني لا أرفع منها، ولا أنفع.
ومما يعين على الاستعفاف: الإلحاح في هذا
الدعاء الثابت في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول (اللهم إني أسالك الهدى
والتقى والعفاف والغنى ).
اللهم أصلح أحوالنا ونياتنا وذرياتنا
واختم بالصالحات أعمالنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم احفظ بلادنا من كل سوء ومكروه،
واحفظها من كل شر وفتنة يا رب العالمين، اللَّهُمَّ رد كيد الكائدين في نحورهم وكفنا
شرورهم إنك على كل شيء قدير، اللَّهُمَّ احفظ علينا أمننا وإيماننا واستقرارنا في أوطاننا
ولا تسلط علينا ذنوبنا ما لا يخافك فينا ولا يرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم احفظ رجال أمننا بحفظك، ومدهم
بعونك وتوفيقك، وألف بين قلوبهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم ارحم من قتلوا منهم
وتقبلهم في الشهداء يا أكرم الأكرمين، اللهم اجعل ما قدموه لدينهم ووطنهم وأمتهم في
ميزان حسناتهم يا ذا الجلال والإكرام. اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا وأمننا
بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم
ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين
في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم،
اللهم أطعم جائعهم واكس عاريهم وفك أسيرهم واشف مريضهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا
والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا
رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك
بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا
عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك
سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد
لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ
الوليد الشبعان تجدها هنا: http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|