الغضب
إنّ الحمد للّه نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فاتقوا
الله عباد الله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ].
عِبَادَ
اللهِ:
فإن
الدين الاسلامي دين الأخلاق الحميدة , دين ينبذ الأخلاق السيئة والمقيتة والتي
منها [خلق الغضب] والذي هو محور خطبتنا هذا اليوم فنقول بالله نستعين رَوَى
البُخَارِيُّ في صحيح مِنْ حَدِيثِ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي، قَالَ: ( لاَ تَغْضَبْ ) فَرَدَّدَ مِرَارًا،
قَالَ: ( لاَ تَغْضَبْ ). يَقُولُ الإِمَامُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أنَّ الغَضَبَ جِمَاعُ الشرِّ، وأنَّ التَّحَرُّزَ مِنهُ جِمَاعُ
الخير.
هَذَهِ
عِبَادَ اللهِ: وَصِيَّةٌ جَامِعَةٌ؛ كَرَّرَهَا صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ،
وَكَثُرَ فِي الشَّرْعِ التَّحْذِيرُ مِنَ الغَضَبِ؛ فَهُوَ مِنْ نَزَعَاتِ
الشَّيْطَانِ، وَهُوَ سَبَبُ كَثِيرٍ مِنَ الشُّرُورِ؛ وَلِذَا جَاءَ فِي بَعْضِ
رِوَايَاتِ الحَدِيثِ أنَّ السَّائِلَ قَالَ: ( فَتَأَمَّلْتُ فِي الغَضَبِ
فَوَجَدْتُ تَرْكَهُ تَرْكَ الشَّرِّ كُلِّهِ ).
يَغْضَبُ
الإِنْسَانُ فَيَرْفَعُ صَوتَهُ، وَيَسُبُّ وَيَشْتُمُ، وَلَرُبَّمَا دَعَا عَلَى
نَفْسِهِ وَعَلَى وَلَدِهِ، وَعَلَى مَالِهِ، يَغْضَبُ؛ فيَظْلِمُ، وَيَمُدُّ
يَدَهُ فَيَضْرِبُ، أوْ يُشْهَرُ سِلاحَهُ فَيَقْتُلُ، يَغْضَبُ الرَّجُلُ
فَيُطَلِّقُ زَوْجَهُ، وَيَقْطَعُ رَحِمَهُ، ويُشَتِّتُ أُسْرَتَهُ، وَيُفْسِدُ
عِلَاقَتَهُ بِالنَّاسِ، وَيَقْضِي عَلَى صِحَّتَهُ.
عِبَادَ
اللهِ: مِنْ طَبِيعَةِ الإِنْسَانِ الغَضَبُ، وَالنَّاسُ فِيهِ يَتَفَاوَتُونَ،
وَقَدْ يَكُونُ مِنَ العَسِيرِ عَلَى المَرْءِ أنْ لَا يَغْضَبَ، وَلَكِنَّ
المُتَّقِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِاللهِ تَعَالَى تَذَكَّرُوا، وَإِذَا أُوقِفُوا
عِنْدَ حُدُودِهِ تَعَالَى وَقَفُوا؛
فَهَذَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
يَقُولُ لَهُ عُيَيْنَةُ ابْنُ حِصْنٍ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَاللهِ مَا
تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ
حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ، فَقَالَ الْحُرُّ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { خُذْ
الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ } وَإِنَّ هَذَا
مِنْ الْجَاهِلِينَ، فَوَ اللهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ؛
وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ.
ومن
معاني حديث [ لا تغضب ] أي أبعد عن جميع الأسباب التي تفضي إلى غضبك وذلك يحتاج
إلى مجاهدة .
ومن
المعاني أنك إذا غضبت لا تنفذ ما يمليه عليك غضبك فإذا غضبت لا تطلق , إذا غضبت لا
تضرب , إذا غضبت لا تقتل وهكذا .
وَلَمَّا
بَلَغَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَوْلَ القَائِلِ: هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا
أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ، شَقَّ عَلَيهِ ذَلِكَ، وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ
وَغَضِبَ، وَلَمْ يَزِدْ أنْ قَالَ: ( يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى؛ قَدْ أُوذِيَ
بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَر ) رواه البخاري ومسلم. يَصْبِرُ صَلَّى اللهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ؛ يَمْتَثِلُ أمْرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ
لَهُ: { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ }الحجر 85 : { فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ
سَلامٌ } الزخرف 89 وهكذا المسلم يجب أن يقتدي بنبي الرحمة .
بَارَكَ اللهُ… أقُولُ مَا تَسْمَعُونَ…
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشّكْرُ لَهُ عَلَى
تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا
لَشَانِهِ ، وأشهدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدّاعِي
إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وأصْحَابِهِ وأعْوانِهِ
وسَلّم تَسْلِيماً كثيراً ، أمَّا بَعْد عباد الله :
وَإنَّ
مِمَّا يُعِينُ عَلَى اجْتِنَابِ الغَضَبِ وَكَظْمِ الغَيْظِ؛ مَا ذَكَرَهُ
الإِمَامُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ، حَيْثُ قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ مَنْ غَضِبَ بِتَعَاطِي أسْبَابٍ تَدْفَعُ
عَنْهُ الغَضَبَ، وَيَمْدَحُ مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ عِنَدْ الغَضَبِ، فَعَنْ سُلَيْمَانَ
بنِ صُرَدٍ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا
قَدْ احْمَرَّ وَجْهُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (
إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ
أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) فَقَالُوا لِلرَّجُلِ أَلَا
تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنِّي
لَسْتُ بِمَجْنُونٍ ) . رواه البخاري. الِاسْتِعَاذَةُ: الالْتِجَاءُ إِلَى اللهِ
تَعَالَى، وَالاعْتِصَامُ بِهِ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ وَهِي مِنْ
أنْفَعِ العِلَاجِ لِهَذَا الدَّاءِ.
وَمِنْ
عِلَاجِ الغَضَبِ: السُّكُوتُ؛ وَهُوَ دَوَاءٌ عَظِيْمٌ لِلْغَضَبِ؛ لَأَنَّ
الغَضْبَانَ يَصْدُرُ مِنْهُ فِي حَالِ غَضَبِهِ مِنَ القَولِ مَا يَنْدَمُ
عَلَيهِ فِي حَالِ زَوَالِ غَضَبِهِ؛ مِنَ السِّبَابِ وَغَيرِهِ مِمَّا يَعْظُمُ
ضَرَرُهُ، فَإِذَا سَكَتَ زَالَ هَذَا الشرُّ كُلُّهُ.
ومن
العلاج استحضار فضل كظم الغيظ فَقَدْ مَدَحَ الكَاظِمِينَ لَهُ، فَقَالَ تَعَالَى يَصِفُ
عِبَادَهُ: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} الشورى 37 وَقَـالَ تَعَالَى:
{ وَأَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ
مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ
عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } آل عمران132ـ 134، قَالَ اهل العلم
رَحِمَهُم اللهُ: وَقَدْ دَلَّتِ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى أنَّ كَظْمَ الغَيْطِ وَالعَفْوَ
عَنِ النَّاسِ، مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَكَفَى بِذَلِكَ حَثَّاً عَلَى ذَلِكَ.
وَدَلَّتْ أَيْضًا: عَلَى أنَّ ذَلِكَ مِنْ الإِحْسَانِ الَّذِي يُحِبُّ اللهُ المُتَّصِفِينَ
بِهِ .أ هـ
ومنها
ما رواه معاذ
بن أنس الجهنيِّ رضي
الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ كَظَمَ غَيْظـًا وَهُوَ
قَـادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَـاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ
الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ
الْعِينِ مَـا شَـاءَ]، رواه أبو
داود والترمذي، وحسنه الألباني.
ومن
العلاج تغيير الهيئة فإذا كان قائما جلس وإن كان جالسا اضطجع وان كان مضطجعا , ومن
العلاج أن يتنبه الغاضب إلى قوة الله وجبروته وعظمته وأن الله سينتصر للمظلوم ولو
بعد حين .
عِبَادَ اللهِ: ثُمَّ
اعْلَمُوا أنَّ الغَضَبَ المَذْمُومَ: مَا كَانَ لِغَيرِ اللهِ تَعَالَى؛ أمَّا
مَا كَانَ لِلهِ تَعَالَى، وَلِحُرُمَاتِهِ وحُدُودِهِ، فَهُوَ مَحْمُودٌ
وَمَمْدُوحٌ؛ قَالَ تَعَالَى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }الفتح 29 كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إذَا
رَأَى أوْ سَمِعَ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ غَضِبَ لِذَلِكَ، وَقَالَ فِيهِ وَلَمْ
يَسْكُتْ.
فَاتَّقوا
اللهَ رَحِمَكُمُ اللهُ، واسْعَوا فِي رِضَاه، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَتِهِ،
واتَّبِعُوا مَا جَاءَكُمْ بِهِ رسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؛
تَسْعَدُوا فِي دُنْيَاكُمْ وَأُخْرَاكُم.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا … اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ….
حَمِيدٌ مجيد...........
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ الوليد الشعبان تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|