إلى أبناء ونساء العلماء وطلبة العلم والصالحين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا؛
ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
ءَامَنُواْْ اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ
).( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا
اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
).( يَا أَيُّهَا الَّذِين ءَامَنُواْ اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ
لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ). أما بعد:
فإنّ خير الكلام كلام الله،
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل
محدثةٍ بدعة وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
أيها الإخوة
المسلمون: لو كُشف للناس بعضهم مع بعض مافي نفوسهم, وعلم كل منهم ما لدى صاحبه, لتعاملوا
فيما بينهم بمقتضى ما يعلمون, ولم تحصل أي مشكلة على الإطلاق , ولكن هذا لم يكن ولن
يكون أبدا, ولا يُعلم مافي البواطن إلا (يوم تُبلى السرائر) ( إذا بعثر مافي القبور
* وحصل مافي الصدور ) وتجدون الناس هم أقرب وأنفع واقل مشاكل مع من فهموا مراده وقصده
ممن هو بعكس ذلك, ولكن ليس كل ما في النفوس يُكشف, ولا كل ما يُكشف يُفهم , ولا كل
ما يُفهم يُقبل, ولا كل ما يُقبل يمضي ويتم .
في المجتمع شريحة غالية عزيزة على الجميع, هي
اقرب الشرائح إلى الله, لأنهم اعلم الخلق بالخالق, هم ورثة الأنبياء والرسل, حملة العلم,
الدعاة إلى الحق بالحق, الذين أشهدهم أعز الشاهدين رب العالمين, على أعز مشهود طلب
من الثقلين, فقال سبحانه ( شهد الله انه لا اله ألا هو والملائكة والوا العمل قائما
بالقسط لا اله إلا هو العزيز الحكيم )
هذه الشريحة –أيها الإخوة– تظلم كثيرا من الكثير والعامة, ومن ذوي القربى خاصة
وظلم ذوي
القربى اشد مضاضة * على النفس من وقع الحسام المهند
يعانون
بقدر ما يعلمون, وبقدر ما الناس من حالهم يجهلون, وربما صار أشد معاناتهم من اقرب الناس
إليهم, من أبنائهم وأزواجهم وأقاربهم ومجتمعهم, ومن هنا يأتي كلامنا اليوم موجها لأبناء
وأزواج وأقارب والقريبين من العلماء والمشائخ, والدعاة وطلبة العلم, وفاءا لهم, وردا
لبعض جميلهم على الناس, ونطقا على ألسنتهم, ودفاعا عنهم, وإسهاما في تخفيف المعانات
عنهم, علّ ما نقول يلامس عقولا مدركة, وقلوبا طيبة, ونفوسا رحيمة, فيخفف المعانات الثقيلة,
ويحقق الأهداف المرجوة, فيسير العالِم وطالب العلم بتوازن مع من حوله ومع من يتعامل
معه .
فالعلماء يعيشون مع الناس على ارض واحدة, وفي
بيوتهم ومع أبنائهم وأزواجهم في بيت واحد أو حتى في غرفة واحده, ولكن البون شاسع فيما
في نفوسهم وفيما في نفوس من حولهم, والبون شاسع أيضا بين نظرتهم للحياة ونظرة من حولهم
لها .
العلماء يعلمون من الله مالا يعلمه غيرهم, فتجدهم
يحترقون من الداخل على ساعة أو دقيقة, أو حتى ثانية تضيع منهم في غير طاعة الله, بينما
من حولهم لا تهمه الأعوام والشهور, والأيام والساعات في سبيل لهو ولعب أو حتى باطل
أو محرم, فحينما يُطلب من عالم أو طالب علم مثلا أن يذهب إلى نزهة برية, أو أماكن سياحية
جميلة من قبل أبناءه أو زوجاته أو غيرهم وإن كانت مباحة ليس فيها أدنى محرم, تراه من
منطلق علمه بالله, وبشرع الله , وبسيرة رسول الله, وبسير السلف الصالح الزهاد في الدنيا,
الذين يخشون أن يقال لهم يوم القيامة ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم
بها ) تجده لا يرغب ذلك ابدا, بل إنه وإن خرج بهم أو معهم خرج مجاملا, وإن ضحك واظهر
انه مسرور فهو بخلاف ما يدور في خلده وذهنه, فقلبه يعتصر, وربما عينه تدمع , يحسب الوقت
بالثواني كي ما يمر ليعود إلى مستقره, والى مكتبته, فهو ينطلق من علمه المستاق من نصوص
الشريعة المثبت بلا شك أن السرور وقرة العين وراحة الضمير والأنس كل الأنس بالقرب من
الله, في تعلم تفسير آية, أو تفقه في حديث, أو معرفة مسالة علمية, أو في ركعتين نافلة
خفيفة, أو في مناجاة لله خفية, فهو الامتداد الحقيقي للسعادة السرمدية الأبدية في الدار
الآخرة, كما قال بعض السلف: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. وقال
بعضهم: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها ولم يذوقوا أطيب ما فيها, وهي لذت العبادة. فهل
يدرك من حول العالم أو طالب العلم من أبنائه وأزواجه هذا الشعور منه؟ أبدا؛ بل إنه
ألم يوافقهم في الذهاب وينزل على ما يريدون ويرغبون ضاربا بكل اعتبار عرض الحائط فهو الملوم إذا, والمعقد, والمتنطع, والمتزمت, والمضيق
على أهله وأبناءه, وعلى الناس بفتاويه وتوجيهاته وآرائه, ويقال له ذلك مشافهة, ويُجهر
له به, فيزيد من معاناته وحسراته ما الله به عليم, فكيف لو اطلع الأبناء على الأمنيات
والرغبات العريضة الطويلة التي يتمناها الأب العالم لأبنائه, ومنها: أن يراهم طلبة
علم وعلماء, فكيف هي أنسه وسعادته التي تغمره لو دخل على أبنائه وهم يتلون القرآن ويتعلمونه,
أو يبحثون في بطون الكتب عن المسائل العلمية, فهلا اتق الله الأبناء والأزواج في أبيهم
العالم؟ فلا اقل من أن يتركوه وشانه في الحياة, ولا يقحمونه فيما تشتهي أنفسهم ولا
تشتهيه نفسه, أو لا اقل في حقهم من أن يستجيبوا إلى بعض ما في نفس أبيهم من رغبته الداخلية
الملحة إلى زيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة, أو أداء عمرة, حينما
يلحوا عليه بالخروج والسفر والتغيير والاستجمام
كما يسمونها, يقال هذا في حق الأب العالم ذا الوضع المعيشي الجيد الذي ليس
عليه ولا يتعلق به أدنى مطلب حسي أو معنوي لأي مخلوق, فكيف إذا كان ذلك العالم فقيرا
والفقر شعار العلماء, لا يملك منزلا , ولا مركبا, ولا مصدر رزق حسن يدر عليه مالا يربوا
على حاجته يدخره لحوادث الدهر ومستجدات الحياة,
بل لا يملك سوى ما يكفيه لمتطلباته ومستلزماته الشهرية, وفي آخر الشهر تجده يلفظ أنفاسه
الأخيرة, أو كان مدانا بأموال حالة السداد , أو كان قد تعلق به حق حسي أو معنوي لوالد
او ذي رحم, لا شك أن المعاناة ستكون اشد واشد , وربما حالت تلك الضغوطات بينه وبين
تلذذه بالعبادة فأفقدته أعز ما يملك وهو دينه
وصلاحه واستقامته, وربما صارت في حقه فتنة عظيمة لم يستطع تحملها أو تجاوزها, فانحرفت
به عن جادة الصواب فأسرته الهموم, واستحوذت عليه الوساوس, وغلبته على نفسه, فاستدرجته
تلك الفتنة شيئا فشيئا إلى دركات الانحطاط, بدأته بترك العلم وطلبه والإعراض عنه, ثم
ثنّت به بعدم النشاط والنهوض لفعل النوافل والمستحبات, وإذا به بعد ذلك لا ينشط لفعل
السنن المؤكدة والرواتب, وشيئا فشيئا حتى يترك بعض الواجبات, فلا يشهد الصلاة في المسجد,
ومع مرور الوقت والأيام وإذا به يترك أدائها بالكلية , والأدهى من ذلك والأمر, والكارثة
والمصيبة العظمى, أن يقع ويلجأ ذلك الذي كان
يوما من الأيام عالما عابدا زاهدا ورعا داعيا معلما إلى ارتكاب المحرمات بدءً بتناول
الخمور والمخدرات, هربا من الواقع الذي يعيشه إلى عالم ذهاب العقول, والعيش في هذه
الحياة دون تحمل أي مسؤولية, فهلا اتق الله الأبناء والأزواج في أبيهم العالم ؟
فاللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا , واهدنا واهد بنا واهد لنا , واستغفر
الله لي ولكم ولسائر المسلمين , فاستغفروا ربكم وتوبوا إليه، إن ربي هو الغفور
الرحيم.
الخطبة
الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد:
أيها الإخوة
المسلمون: يحز في نفوس الناس الصالحين ويؤلم قلوبهم أن يروا أحدا من الناس يرتكب شيء
من المعاصي والمحرمات عيانا جهارا وهو ابن أو قريب لأحد العلماء أو طلبة العلم, وكثيرا
ما يتساءلون, أهذا ابن فلان العالم ؟ لان الناس يرون أن اقرب الناس إلى العلماء والصالحين,
والمصلحين أنهم أحق بالصلاح من غيرهم, ألم تروا –أيها الإخوة– إلى ما قص الله علينا
من خبر مريم عليها السلام لما جاءت بابنها عيسى عليه السلام تحمله ماذا قال لها قومها
؟ إنهم أول ما نظروا إليه صلاحها وصلاح أسرتها فقالوا: (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ
سوء وما كانت أمك بغيا) فنعتوها بصلاحها وصلاح أبيها وأمها وأخيها, فهل يدرك الأبناء
هذا الأمر؟ وكم من عالم ومصلح لما دعا الناس إلى الصلاح رُدت عليه دعوته بان ابنه غير
صالح, وقيل له: لو كان ما تدعوا إليه حق لما خالفك ابنك أو قريبك فلان, وأين العالم
أو الداعية هنا من إقناع الناس بأنه بذل كل ما في وسعه لصلاح ابنه وانه لم يفد, أو
انه يبقى يقص عليهم قصص بعض الأنبياء مع أقاربهم المخالفين لهم كنوح مع ابنه الكافر,
أو إبراهيم مع أبيه الكافر, أو محمد مع عمه أبو لهب الكافر وأقوامهم وأقاربهم الذين
لم يُسلموا معهم, بل حاربوهم وطردوهم وقاتلوهم وقتلوهم.
ألا يتق الله أبناء العلماء والدعاة والمصلحين
في أبيهم وقريبهم؟ فإن لم يستفيدوا من آبائهم العلماء لا علما ولا صلاحا ولا خيرا فلا
اقل من أن لا يجاهروا بالمعاصي فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم وعد من ستر مسلما
بان يستره الله في الدنيا والآخرة , فكيف بمن يستر على نفسه, لاشك انه أحوج وأحوج إلى
الستر, جاء معنى الستر حديث مرسل فيه ضعف عن زيد بن أسلم أنه قال: (من أصاب شيئاً من
هذه القاذورات –يعني المعاصي- فليتب إلى الله وليستتر بستر الله)، فأبناء العلماء والمصلحين
أحق بالستر على أنفسهم من غيرهم لأنهم يمثلون مع أنفسهم آباءهم العلماء وطلبة العلم
والمصلحين , فليكن هذا دائما منا على بال, ونأخذ له ألف حساب.
اللهم
أصلح جميع المسلمين يارب العالمين...... |