البيعة تعريفها أحكامها والحكمة منها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا؛ ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْْ اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ).( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ).( يَا أَيُّهَا الَّذِين ءَامَنُواْ اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ). أما بعد:
فإنّ خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
أيها الإخوة المسلمون: إن الفهم الحقيقي لهذه الحياة وفق العقل السليم والنقل الصحيح يجعل من هذا شأنه قليل الخطأ إن لم يكن عديمه ولا أقل مما يجنيه من السلامة من المكروه وهذا مكسب بحد ذاته.
في الحياة - أيها الإخوة - جزئيات كثيرة يكمل بعضها بعضا توجب على كل إنسان أن يتعلم ما يهمه منها, وتعظم مسؤولية التعلم بعظم الحاجة لتلك الجزئية وقد ترتقي الحاجة إلى درجة الضرورة, يكون ذلك إذا تلبس المسلم بعبادة ما, فإنه يجب عليه أن يتعلمها بأدلتها, وهنا -أيها الإخوة- وفي أيامنا هذه الحاجة ماسة جدا وهي ضرورية أيضا لتعلم أمر من أمور الدين والحياة بمناسبة تولي الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله مقاليد الحكم في البلاد, فيتوجب علينا حيال ذلك معرفة البيعة في الإسلام تعريفها حكمها وأحكامها والحكمة من مشروعيتها وما هي الايجابيات المترتبة عليها, وما هي السلبيات التي تترتب على فقدانها.
فالبيعة هي أن تبايع الرعية رجلا يرعى شؤونهم ومصالحهم ويزيد في الإسلام أن تكون على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن تكون طاعة بالمعروف قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ...)، ولا أوضح بيانا لها مما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منه: قوله صلى الله عليه وسلم: " ومن مات وليس في عنقه بيعة مات مِيتة جاهلية " رواه مسلم، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبَّ أو كره إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة "متفق عليه، وعن الحارث بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " آمركم بخمس السمع, والطاعة, والجماعة, والهجرة, والجهاد "، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق كلمتكم فاقتلوه "رواه مسلم، ومنها عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله , ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني " متفق عليه .
أما عن حكم البيعة في الإسلام فهي من آكد الواجبات, ونكثها كفر عند العلماء, وهي من أولويات دين الإسلام, وقد حصلت في زمن النبي صلى الله عيه وسلم مبايعات وليست مبايعة واحدة, قامت بها دولة الإسلام العظمى, فمنها بيعة العقبة الأولى والثانية, وبيعة الرضوان, وبيعة النساء, ومبايعة الوفود, ومبايعة بشكل فردي وبشكل جماعي, وكل ذلك قد ورد في السيرة, وسار على ذلك من بعده الخلفاء الأربعة ومن جاء بعدهم من أئمة وحكام وملوك المسلمين إلى يومنا هذا والمسلمون يبايعون الحكام والرؤساء والأمراء والملوك.
والحكمة من ذلك -أيها الإخوة – أنه لا تستقيم أحوال الناس إلا بمرجعية تحتكم إليها وتحسم الخلافات بين الناس وحتى لا تصير الأمور فوضى فيحصل من جرائها كل شر, ولإدراك أهمية البيعة بادر الصحابة رضي الله عنهم بمبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه خليفة على المسلمين بعد وفات النبي صلى الله عليه وسلم بساعات وقبل أن يدفن النبي صلى الله عليه وسلم فانتظم الأمر ودرئت الفتنة, وكانت تلك البيعة فلتة, ولم يحصل أي شيء يعكر الصف ويشق بالناس .
وتنعقد البيعة بمبايعة فئة من الرعية من العلماء والوجهاء وأصحاب الرأي والمشورة والاعتبار والحل والعقد, فتندرج البيعة على بقية الرعية بعد ذلك وتلزم الجميع ولو لم يبايع الناس كلهم, فعلى المسلم أن يكون في حياته كلها حاكمه الدليل الشرعي ولو لم تتضح له الحكمة من الأمر أو النهي, أُمر فليأتمر, نُهي فلينتهِ (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) فاتقوا الله عباد الله واعلموا ثم اعملوا واخلصوا لعلكم تفلحون, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله كما يجب علينا من حمده وتعظيمه, وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك في إلهيته وربوبيته, وأسمائه وصفاته, واشهد أن محمد عبده ورسوله بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده , صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وسلم تسليما كثيرا أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون: نمنا بالليل والملك عبد الله رحمه الله, وقمنا في الصباح والملك سلمان حفظه الله, بكل هدوء وبكل أمن وأمان, وبكل يسر وسهولة وسلاسة في انتقال الحكم, لا صخب ولا ضجيج, ولا فوضى ولا فقدان للأمن, ولا انتخابات, ولا برلمانات, ولا دساتير وضعية, ولا مؤتمرات شعبية, ولا مشاكل, ولا نزاعات، ولا فرقة, بل ولا تنفّذٍ لأصحاب الأهواء والأغراض الرديئة والمشينة, ولا اصطياد في المياه العكرة, ولا فرصة لأي قاصد لتعكير الصفو, وشق الصف وإحداث للبلبلة .
أي نعمة من الله نتقلب فيها في هذه البلاد في ظل هذه الحكومة الرشيدة وهذا النهج القويم لسياسة الحكم, سيما والعالم مشتعل, والنار وصلت إلى الحدود, وكثير من الدول تنشد الحد الأدنى في الاستقرار, والثورات قائمة والانقلابات والخيانات كثيرة, وكثير من الشعوب شردتها الحروب والأحزاب والفرقة, والتنازع المحموم على السيادة والزعامة وحب الذات والإقصاء، والله ما أشقى في هذه الحياة من إنسان يكون في نعمة لا يعرف قدرها ولا يشكرها ولا يسعى في ثباتها واستقرارها وزيادتها, بل وأعظم منه شقاءً أن يسعى في زوالها وفقدانها ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير بقصد أو بغير قصد, والأعظم من ذلك كله أن يُسكت على إنسان هذا شانه فيكون هلاك العباد وخراب البلاد على يديه كحال من قال الله فيه: (إِذْ اِنْبَعَثَ أَشْقَاهَا) أي أشقى القبيلة فسكت على فعله الناس, وأنكر عليهم نبيهم صالح عليه السلام فنجى وهلكوا (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا) .
إن الناس -أيها الإخوة- لو أدركوا جيّدا حقائق الأمور والمصالح والمفاسد المترتبة عليها وعملوا لتحصيل المصالح ودفع المفاسد, وارتكاب أدنى المفسدتين في سبيل دفع أعلاهما, وعلموا أنه لا مجتمع على وجه الأرض يخلو من فساد ومفسدين ونقص وتقصير حتى مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وُجد فيه مَنْ زنا ومَنْ شرب الخمر ومَنْ سرق وغير ذلك مما هو معلوم لا يخفى, ومن رام مجتمعاً خالياً من كل نقص وعيب وحكاماً لا تقصير فيهم ولا مآخذ عليهم فليبحث عن مكان غير هذه الأرض، وعالم غير عالمٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: "لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ"، وقال فيه: " كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ "، فالتقصير في الحكام والحكومات وارد وقد يكون كثير, وما أن تخطئ الرعية طرق التعامل مع تلك الحالات وسبل الإصلاح إلا وجدوا أبواب الشر والفساد والفتنة وكل المصائب مشرعة أمامهم فإن يلجئوها يَهلكوا, ولكن السعيد من جُنب الفتن, وصبر حتى يلقى الله, وأدّى الحق الذي عليه، وسأل الله الحق الذي له, وسلك سبل النجاة, وكان مفتاح للخير مغلاقا للشر, سدًّا منيعاً لا يؤتى الإسلام والمسلمون من قبله, حافظا للسانه من اللغو عن الكلام الهابط والكذب ونقل أحاديث المجالس وكل ما يسمع, وعن ذكر الأخطاء وتتبع الزلات والعثرات والترويج للشائعات, وحافظا لكل جوارحه مما هو محسوب ومحاسب عليه هذا هو المطلوب من المسلم , ولو كان كل مسلم بهذه المثابة وبهذا القدر من المسؤولية لسعدت الأمة وعاش الناس باستقامة أمور وصلاح أحوال .
اللهم أصلح شاننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم أصلح أحوالنا وقلوبنا وأعمالنا، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاما ومحكومين، اللهم وفق ولاة أمرنا لما يرضيك ومدهم بعونك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصاراً لدينك وحماة لشريعتك، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، وأرهم الحق حقا وارزقهم اتباعه، وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه يا ذا الجلال والإكرام، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وجماعتنا بسوء فأشغله بنفسه ورُدّ كيده في نحره وافضح أمره واجعل عاقبته إلى وبال يا قوي يا عزيز، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم آمن روعاتهم واستر عوراتهم واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم ونعوذ بك أن يغتالوا من تحتهم، اللهم مكن لهم وانصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز. اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم عليك بأعداء الدين من الكفرة المجرمين والطغاة الملحدين الذين قتلوا العباد وسعوا في الأرض بالتخريب والتقتيل وأنواع الفساد اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك يا رب العالمين، اللهم شتت شملهم وأحبط سعيهم واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ نايف الرضيمان تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=123 |