أثر إقامة الحدود
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسَلَّمَ تسلِيمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد :-
اتقوا الله تعالى حق التقوى , واذكروه واشكروه على نعمه التي لا تُعد ولا تُحصى , وكونوا له على ما يريد منكم ، ترون منه فوق ما تُأمّلون.
عباد الله: أخرج ابن ماجه وابن حِبَّان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الأرْضِ خَيْرٌ لأَهْلِ الأرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ) وهو حديث حسن بشواهده ؛ وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يَوْمٌ مِنْ إِمَامٍ عَادِلٍ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً، وَحَدٌّ يُقَامُ فِي الأرْضِ بِحَقِّهِ أَزْكَى فِيهَا مِنْ مَطَرِ أَرْبَعِينَ عَامًا ) رواه الطبراني بإسناد حسن .
أيها المسلمون: لقد شرع الله تَعَالَى القصاص والحدود والتعزيرات لحِكمٍ بالغة ومصالح عظمى؛ فهي من مظاهر رحمة الله تَعَالَى بعباده، ولطفه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بهم؛ إذ هي عامل من أكبر العوامل للحفاظ على الضروريات الخمس: الدينِ والنفس والعقل والعِرض والمال، والتي متى ما حُفظت استقر المجتمع وأمِنَ واطمأن، وهذا المقصد وهو أمن المجتمع مطلب لجميع البشر، يسعون إلى الظفر به وتحصيله مهما كلّفهم مِن ثمن
عباد الله: لقد شرع الله تَعَالَى حد الردة حماية لحرمة الدين، وشرع القصاص في النفس والأطراف حمايةً لحرمة النفس، وشرع حد الخمر حماية لحرمة العقل، وشرع تعالى حد الزنا وحد القذف حماية لحرمة الأعراض، وشرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حد السرقة حماية لحرمة المال، وجاء حدُّ الحِرابة أغلظ الحدود؛ لأن الحرابة بها كل حُرمات المجتمع المتنوعة..
فإذا طُبّقت هذه الحدود عَمَّ النفعُ الأفرادَ والجماعات والبلاد ؛ لما في تنفيذها من امتثال أمر الله تَعَالَى وإقامة شرعه؛ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) ، ولما في تنفيذها من ردع وزجر وتخويف يُضَيِّق مجال الجريمة ويحد من انتشارها؛ ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ؛ وذلك لأن من أراد القتل وعلم أنه سيقتل انزجر وارتدع ؛ فلم يُقْدِم على جريمته، وبذلك تُحقنُ الدماءُ ويُكفُّ الأشقياء..
وهكذا - يا عباد الله - سائر الحدود الشرعية؛ فيها من النكاية والزجر ما هو كفيل بكف الناس عن الوقوع في موجباتها..
= وفي تنفيذ الحدود حسم الفوضى واستتباب الأمن ودفع الفتن، يقول الله جلَّ ذِكْرُهُ بعد ذكر قصة ابني آدم: ( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) ، ففي هذه الآية الردع القوي عن قتل نفس واحدة؛ لأنه تَعَالَى صوَّر قتل النفس الواحدة بصورة قتل جميع الناس، وفائدة التشبيه أيضًا الترغيب في إحياء النفس؛ لأنه تَعَالَى صور إحياءها بصورة إحياء جميع الناس.
عباد الله: إنّ المجتمع الذي تُقام فيه الحدود تجده أكثر المجتمعات أمنًا وأقلها فتنًا؛ وها نحن في هذه الأزمان الرهيبة : قد علم القاصي والداني والمحب والمبغض أن هذه البلاد بحمد الله تَعَالَى آمنة مطمئنة؛ سُبُلها آمنة، مدنها على كِبَرِها آمنة، قُراها على بُعدها آمنة، الأمن بحمد الله عَمَّ الحاضر والباد، وغمر المدر والوبر، أما الجريمة فهي على قلّتها قد ضُيّق عليها الخناق، ووقف لها بالمرصاد.
فقل لي بربك: ما الذي خَصَّنا بهذه النعمة دون أكثر العباد؟ وما الذي فضّلنا بهذه النعمة دون أكثر البلاد؟
إنه توحيد الله تَعَالَى، وإفراده بجميع العبادات، والطهارة من الشرك الذي حرَّم الله الجنة على صاحبه، فبلادنا بحمد الله من مظاهر الشرك سالمة ولمنائره هادمة. قال الله تَعَالَى: ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ) .
ومن آثار ذلك التوحيد: تطبيق حدود الله تَعَالَى، وإقامةُ شرعه بين الناس؛ فالحمد لله على هذه النعمة التي وفق الله تَعَالَى دولة التوحيد لها من بين سائر الدول في هذه الأزمان العصيبة نسأله سُبْحَانَهُ أن يزيدها عزة وقوة، وأن يوفقها لكل خير، وأن يجنبها كل مكروه وشر .
والمسلم السالم مِن الهوى يحفظ لولاة أمره هذا الفضل ، ويشكر لهم تطبيق هذا الشرع ؛ فيدعو لهم بالتوفيق والتسديد كما كان السلف يفعلون ويأمرون ، ورحم الله الإمامَ البربهاري إذ يقول: "إذا رأيت الرجل يدعو للسلطان فاعلم أنه صاحب سُنة إن شاء الله تعالى، وإذا رأيته يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى"، مع أننا نعترف أنهم بشر غير معصومين ، يُصيبون ويخطئون ، وهم يُقرّون بذلك ويعترفون ، ولذا فهم بحاجة ماسة للدعاء ، وبصلاحهم صلاح للبلاد والعباد.
فاللهم أصلحنا حُكاماً ومحكومين ، واجمعنا على حُكمك وشرعك أجمعين ، وتغمّدنا برحمتك يا أرحم الراحمين ، أقول ما تسمعون ، واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.
اللهم لك الحمد حمداً كثيرا، ولك الشكر شكراً جزيلا، كبتَّ عدونا، وأيّدت أمننا، وجمعت شملنا، فخابت ظنون الحاسدين، وأبطل الله كيد الكائدين، فاللهم لك الحمد أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله بعثه الله بشيرا ونذيرا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا أما بعد :
أيها المسلمون، إن المسلم حينما يسمع بيانات إقامة حدود الله تَعَالَى في هذه البلاد ليفرح فرحًا عظيمًا؛ استجابة لقول الله تَعَالَى: ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) فإقامة الحدود فضل من الله عظيم ، كما أنه رحمة من الله كبيرة، لا يَقْدِرُ قَدْرَها إلا العاقلون العالِمُون.
إن إقامة حَدِّ القتل الذي نسمعه بين فينة وأُخرى ، إنّه والله أبلغ من ألف خطبة وألف محاضرة في هذا الموضوع؛ لِمَا يحصل به من معرفة حكم الله عمليًّا، وما يُثمِرُه مِنِ ابتعادِ الناس عن الشر والجريمة.
أيها المؤمنون : هناك فئام من الناس يتحدّثون في قضايا كبيرة فوق مكانتهم؛ فيُعَرِّضُون أنفسهم بذلك للقول على الله وعلى شرعه بغير علم.
فمن الناس مَن يُنَزِّل نفسه منزلة القضاة فيقول: لِمَ لا يُقتل هذا؟! لِمَ لا يُرجم هذا؟! لِمَ لا يُجلد هذا؟! وكأنه قد أحاط بالعلم وتأكدّ من الحقائق ، أو كأنّه نُصِّب للقضاء، وما عَلِم هذا الجاهل أن مجلس القضاء مختلِفٌ جدًّا عن مجلسه الذي يتكلّم فيه وهو مُتَّكِئٌ على أريكته؛ فمجلس القضاء مجلسُ شُهُودٍ وبَيِّنات ، وليس تخرّصًا وحدسًا، وليس عاطفة وحماسة.
أتعلم - أيها الخائض في الأقضية ولست من أهلها - أن قاعدة (الحدود تُدرأ بالشبهات) قاعدة صحيحة متفق عليها؟! مع ما في هذه القاعدة من عظيمِ رحمة أرحم الراحمين وإرادةِ توبته على المعتدين والمجرمين ، وواسعِ حلمه وستره عليهم وهو أحكم الحاكمين.
صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (ادْرَءُوا الْجَلْدَ وَالْقَتْلَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي، وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لَئِنْ أُعَطِّلُ الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُقِيمَهَا فِي الشُّبُهَاتِ). وقد جاء في هذا المعنى أحاديثُ عن النبي صلى الله عليه وسلم يَشُدُّ بعضُها بعضًا ، وما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع ماعز والغامدية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ليس إلا دليلا صريحًا على صِحَّة هذه القاعدة.
فهل عَلِمَ ذلك المتكلم هذه القاعدة وأمثالها، أم أنه جَهِلَها فَأُتِيَ مِن قِبَل جَهْلِه؟!
فحذارِ حذارِ - أيُّها المؤمنون - من الخوضِ فيما ليس لكم به علم ، وإذا لم يُكَلَّفِ الإنسان بالحكم فليحمد الله ، ولا يدخلن نفسه فيما لا يَخُصُّه ولا يعنيه؛ فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا فى ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، وﻻ مبلغ علمنا، وﻻ تسلط علينا من ﻻ يرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم حببّ إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك شاكرين.. لك ذاكرين.. لك راغبين.. لك راهبين. اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، ويسر أمورنا، وطهر قلوبنا، واسلل سخيمة قلوبنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصارا لدينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات انك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله ربِّ العالمين.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|