الاستعاذة من زوال النعم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسَلَّمَ تسلِيمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد :-
فاتقوا الله عز وجل وتعلّموا من سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ما يقربكم إلى ربكم وألحوا بالدعاء - الذي هو من أجلّ العبادات وأشرفها- الدعاء بخيري الدنيا والآخرة عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ ))؛ رواه مسلم.
هذا ﺣﺪﻳﺚ ﻋﻈﻴﻢ ﺍﺷﺘﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﻤﻞ الأﺭﺑﻊ:
((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ)).
فقوله: ((أَعُوذُ بِكَ)) أي : ألتجئ واعتصم بالله القوي الكبير من شر كل ذي شر . والواجب الاستعاذة بالله فيما لا يقدر عليه إلا الله ((إذا استعنت فاستعن بالله)).
وقوله : ((زَوَالِ نِعْمَتِكَ)) أي ذهابها ومحوها. ﻭﺃﻋﻈﻢ ﺍﻟﻨﻌﻢ ﻧﻌﻤﺔ الإﺳﻼﻡ الذي رضيه الله لنا قال تعالى : ﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا ﴾، ﻟﻬﺬﺍ ﻳﺸﺮﻉﻟﻠﻌﺒﺪ ﺃﻥ ﻳﺴﺄﻝ ﺍﻟﻠﻪ - ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ - ﺃﻥ ﻳﺜﺒﺘﻪ ﻋﻠﻴﻪ كما هو هدي نبينا صلى الله عليه وسلم فكان يكثر أن يقول : ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) هذا وهو سيد البشر والذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ﻭيشرع أيضا أن يسأل الله أن ﻳﺰﻳﺪﻩ ﻣﻨﻪ ، و أن ﻳﺤﻤﺪ ﺍﻟﻠﻪ - ﺳﺒﺤﺎﻧﻪﻭﺗﻌﺎﻟﻰ - ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ، ﻭﺃﻥ ﻳﺸﻜﺮﻩ، ﻭﺃﻥ يثني ﻋﻠﻴﻪ - ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ لأن الله جل وعلا هو المتفضل عليك أن جعلك مسلماً لا تعبد إلا الله .وﻳﺸﻤﻞ أيضا ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻨﻌﻢ ﺍﻟﺘﻲ يُنعِم ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﺒﺪ الدينية والدنيوية ، ﻓﻴﺴﺄﻝ ﺍﻟﻠﻪ - ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ - ﺃﻥ ﻳﺰﻳﺪﻩ ﻣﻨﻬﺎ، ﻭﺃﻥ ﻳﻤﺪﻩ ﻣﻨﻬﺎ وان يحفظها من الزوال ؛ ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻠﻪ - ﻋﺰ ﻭﺟﻞ -: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾، وﺍﻟﺸﻜﺮﻟﻠﻨﻌﻢ ﻳﺰﻳﺪﻫﺎ .
والمؤمن الحريص على دينه يبعد عن أسباب زوال النعمة ومن أهم الأسباب : نسبة النعمة لغير الله إما صراحة عياذاً بالله أو كناية يقول الحق جل وعلا ﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَة اللَّه ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا ﴾، ويقول: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ .
ومن أسباب زوال النعمة: الاستعانة بها على معصية الله فهذا مؤذن بزوالها قال تعالى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾، فراقب النعمة التي بين يديك من ثلاثة أحوال : بالقلب وباللسان وبالجوارح هل قمت بها أو لا ؟! وانظر من حولك ممن أعطوا نعم وعصوا الله بها فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون .
وقوله: ((وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ)) أي انْتِقَالُهَا مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ .
واعلم يا عبد الله أن هناك فرقاً دقيقاً بين الزوال والتحول، فَمَعْنَى زَوَالِ النِّعْمَةِ ذَهَابُهَا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ - نسأل الله العافية- وَتَحَوُّلُ الْعَافِيَةِ إِبْدَالُ الصِّحَّةِ بِالْمَرَضِ وَالْغِنَى بِالْفَقْرِ .
واستعاذ أَيْضا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من تحول عافيته سُبحانه لأنّه إِذا كَانَ قد اختصه الله سُبحانه بعافيته فقد ظفر بِخير الدَّارين فَإِن تحولت عَنهُ فقد أُصِيب بشر الدَّاريْنِ فَإِن الْعَافِيَة يكون بهَا صَلَاح أُمُور الدُّنْيَا وَالْآخِرَة , واستعاذ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من فَجْأَة نقمة الله سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُ إِذا انتقم من العَبْد فقد أحل بِهِ من الْبلَاء مَا لَا يقدر على دَفعه وَلَا يستدفع بِسَائِر المخلوقين وَإِن اجْتَمعُوا جَمِيعًا كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح الْقُدسِي أَن الْعباد لَو اجْتَمعُوا جَمِيعًا على أَن ينفعوا أحدا لم يقدروا على نَفعه أَو اجْتَمعُوا جَمِيعًا على أَن يضروا أحدا لم يقدروا على ضره , والفجاءة أي البغتة فيأتيه الشيء من غير أَن يعلم بذلك .
((وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ)): ﻓﺠﺄﺓ ﺍﻟﻨﻘﻤﺔ ﺃﻭ ﻓﺠﺎﺀﺓ ﺍﻟﻨﻘﻤﺔ ﻣﻦ ﺑﻼﺀ ﺃﻭ ﻣﺼﻴﺒﺔ ﻳﺄﺗﻲ ﻋﻠﻰ ﻓﺠﺄﺓﺑﺨﻼﻑ ﻣﺎ ﺇﺫﺍ ﺳﺒﻘﻪ ﺷﻲﺀ ﺑﺄﻥ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻓﺠﺄﺓ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻜﻮﻥ ﺃﺧﻒ, ﻭﺭﺑﻤﺎ ﻛﺎﻥ سببًا ﻓﻲ ﺗﻮﺑﺔ ﺍﻟﻌﺒﺪﻭﺭﺟﻮﻋﻪ، وﻓﺠﺎﺀﺓ ﺍﻟﻨﻘﻤﺔ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﻧﻘﻤﺔ .
أي أعوذ بك من العقوبة، والانتقام بالعذاب مباغتة، دون توقع وتحسب، وخُصَّ فجاءت النقمة بالاستعاذة؛ لأنها أشد وأصعب من أن تأتي تدريجياً، بحيث لا تكون فرصة للتوبة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد
واستعاذ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جَمِيع سخطه لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِذا سخط على العَبْد فقد هلك وخاب وخسر وَلَو كَانَ السخط فِي أدنى شَيْء وبأيسر سَبَب وَلِهَذَا قَالَ الصَّادِق المصدوق عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: (( وَجَمِيع سخطك )) وَجَاء بِهَذِهِ الْعبارَة شَامِلَة لكل سخط (( وﺟﻤﻴﻊ ﺳﺨﻄﻚ )) ﻭﻫﺬﺍ أيضًا ﻣﻦ ﺃﻋﻈﻢ ﺍﻟﺪﻋﻮﺍﺕ، ﺃﻥ ﻳﺴﺘﻌﻴﺬ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ ﺳﺨﻄﻪ - ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ - ﻭﺃﻋﻈﻢ ﺳﺨﻄﻪﺃﻥ ﻳﺄﺗﻲ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻣﺎ ﺣﺮﻡ ﺍﻟﻠﻪ عليه ؛ ﻭﻟﻬﺬﺍ ﺟﺎﺀ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ الألفاظ والأخبار ﺃﻥ ﺭﺿﺎﻩ - ﺳﺒﺤﺎﻧﻪﻭﺗﻌﺎﻟﻰ - ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ الأﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﺼﺎﻟﺤﺔ.
ﻟﻜﻦ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﺃﻥ ﻳﺠﺘﻬﺪ ﻓﻲ ﺇﺭﺿﺎﺋﻪ - ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ - ﻭﻟﻮ ﺃﺳﺨﻂ ﺍﻟﻨﺎﺱ، ﺍﻟﻤﺮﺍﺩ: ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺴﺨﻂ ﻫﺬﺍ ﻟﻴﺲ ﻓﻲ ﻣﻌﺼﻴﺔ ﺍﻟﻠﻪ. ﺃﻣﺎ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﻣﻌﺼﻴﺔﺍﻟﻠﻪ فلا ؛ ﻛﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺍﻟﺬﻱ ﺟﺎﺀ ﻣﻦ ﻃﺮﻕ ﻋﻦ ﻋﺎﺋﺸﺔ ﻭﻏﻴﺮﻫﺎ ﺃﻧﻪ - ﻋﻠﻴﻪ ﺍلصلاة ﻭﺍﻟﺴﻼﻡ - ﻗﺎﻝ: (( مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ ، بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ )).
فاللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذ بك من شَرّ سخطك ونسألك رضاك وَالْجنَّة فَمن رضيت عَنهُ فقد فَازَ فِي جَمِيع أُمُوره وأفلح فِي كل شؤونه ونعوذ بك من زَوَال نِعْمَتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك يَا رَحْمَن يَا رَحِيم يَا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام يَا حَيّ يَا قيوم.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم حببّ إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصارا لدينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات انك سميع قريب مجيب الدعوات، سبحان ربِّك ربِّ العزة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129 |