من مقاصد وحِكم الحج
الحمد لله الذي جعل بيته الحرام للناس أمنا ومثابة وزاده سبحانه وتعالى وتعظيماً وتشريفاً وتكريماً ومهابة والصلاة والسلام على محمد رسول الله أفضل الخلق منسكاً وعباده ، وعلى آله وأصحابه أولي الإخلاص والإصابة . أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله وعظموه وعظّموا شعائره ، فإن ذلك من تقوى القلوب : (( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ )) .
عباد الله : إن ربنا جل جلاله حكيم عليم ، له الحكمة البالغة في خلقه وتدبيره ، وفي أمره وتشريعه .
وإن من حكمة ربنا جل جلاله في أمره وتشريعه ما تضمنته فرائض الإسلام من الأسرار والحكم والمصالح والمقاصد الجليلة .
وإن من أعظم فرائض الإسلام التي تتجلى فيها المقاصد والحكم العظيمة فريضة حج بيت الله الحرام ، ركن الإسلام الخامس ، الذي فرضه الله على من استطاع من عباده المؤمنين مرة في العمر : (( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )) فهو فريضة عمرية بالنسبة لأفراد المسلمين المكلفين ، وهو موسم سنوي بالنسبة لمجموع الأمة الإسلامية ، يتوافد المسلمون من أقطار الأرض يأتون من كل فج عميق ، فيجتمعون في بلد الله الحرام ومشاعره العظام ليؤدوا منسكاً واحداً ، متعبدين لرب واحد ، متبعين هدي نبي واحد ، متجهين لقبلة واحدة ، لابسين زياً واحداً ، مرددين شعاراً واحداً ، فيتحقق لمجموعهم وأفرادهم من المصالح والحكم والمقاصد ما لا يمكن أن يتحقق مثله في أي تجمع من تجمعات أهل الدنيا مهما كانت مقاصده وأهدافه .
وإن أعظم المقاصد التي تتحقق للحاج في حجه ـ وهو مقصد كل عبادة بل هو مقصد الخلق ـ تحقيق التوحيد الذي هو حق الله الأعظم على العبيد ، وتجريده وترسيخه في النفوس ، فما بني البيت العتيق إلا من أجل تحقيق التوحيد في النفوس وتخليصها من الشرك (( وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً )) ، وتنبيهاً على هذا المقصد الجليل قال الله تعالى في سورة الحج في سياق آيات الحج : (( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ )) .
ويتحقق هذا المقصد الجليل للحاج بالتلبية التي هي إهلال بالتوحيد فيظل الحاج يرددها وكلها شهادة بالتوحيد . وبالطواف بالبيت وركعتيه التي يقرأ فيهما بسورتي الإخلاص ، ويترسخ التوحيد أيضاً بالسعي بين الصفا والمروة وذكرهما الذي فيه التوحيد والتكبير والدعاء ، ويترسخ بمواطن الدعاء المتعددة في الحج ، والدعاء هو العبادة ، وأخص ذلك دعاء عرفة العظيم خير الدعاء وخير ما قال الأنبياء : ( لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .
ومن مقاصد حج بيت الله الحرام : تحقيق وترسيخ معنى الاستجابة والانقياد للشريعة ، والإتباع للنبي صلى الله عليه وسلم . فما قصد الحجاجُ بيتَ الله الحرام وتحمُّل المشاق والصعاب إلا استجابة لنداء الله يوم دعاهم على لسان إبراهيم (( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ )) ، مرددين بعد إحرامهم ( لبيك اللهم لبيك ) ، أي أجبنا نداءك يا ربنا إجابة بعد إجابة ، محبين لك مشتاقين للوصول إلى بيتك منقادين مخلصين مقيمين على طاعتك ـ فكل هذه المعاني تدل عليها هذه الإجابةُ ( لبيك ) ـ ومن مقتضيات استجابتهم لله : السير وفق هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقته في أداء المناسك والالتزام بمواقيتها ومواضعها وصفة أداءها مستحضرين أمره صلى الله عليه وسلم : ( خُذُوا عَنِّي مَناسِكَكُمْ ) ، وبذلك يرسخون في حياتهم مبدأ الإتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي به يتحقق لهم معنى شهادة ( أن محمداً رسول الله ) .
ومن مقاصد الحج البارزة في أنساكه : ترسيخ مبدأ مخالفة المشركين والبراءة منهم ومن دينهم وعدم مشابهتهم في شيء من شعائرهم التعبدية أو عوائدهم الحياتية التي هي من اختصاصاتهم وميزاتهم ، وهذا المقصد قد قرره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله ورسخه في النفوس ، فخالفهم بالتلبية والتمتع بالإهلال بعمرة للحج وبالوقوف بعرفة والإفاضة منها والدفع من مزدلفة ، وبقوله صلى الله عليه وسلم : ( هَدْيُنَا مُخَالِفُ هَدْيَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالأَوْثَانِ ) حديث حسن
ومن حكم الحج ومقاصده : إقامة ذكر الله من تكبير وتعظيم وحمد وتسبيح وتهليل وتلبية ، فقد ذكر الله تعالى هذا المقصد بقوله : (( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ )) ، وفي قوله تعالى : (( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ )) وأيام منى : ( أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ) حديث صحيح .
ومن حكم هذه الفريضة العظيمة : أنها نوع من الجهاد بالنفس والمال ، افترضه الله على المستطيع مرة في العمر ، ابتلاءً واختباراً (( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ )) ، ففي الحج يتحمل الحاج المشاق والمصاعب في سفره وسيره وبروزه للشمس فارع الرأس ، ويترك الحاج الترفه ويقوم بأنواع من المناسك الثقيلة فيبرأ بها من العجز والكسل ويتعود على مشاق الطاعة بل ويتلذذ بها ، ويبرأ أيضاً من البخل وشح النفس بكثرة إنفاقه في سبيل تمام هذه الفريضة ، في صحيح البخاري قالت عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( لَا ، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ ) .
ومن حكم الحج ومقاصده : أنه باب من أبواب تزكية النفوس التي هي غاية من غايات بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ففي الحج تجديد للعهد مع الله وتبديل للحال ورجوع من الذنوب كيوم الميلاد ، ففي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ) ، فما أجله من مقصد ، وهل يسعى المؤمنون ويحفدون ويركعون ويسجدون ويتعبدون لربهم إلا طلباً للمرضاة ومغفرة السيئات ، فما أكرم القدوم على الله عندما يقدم العبد عليه نقياً من الخطايا والذنوب ، (( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ))
عباد الله : وإن هذه المقاصد والحكم وغيرَها ما كان لها أن تتحقق لحجاج بيت الله الحرام حتى يؤدوا مناسك الحج ويعيشوها بقلوبهم وأرواحهم مع أبدانهم ويستشعروا حكمها ومعانيها ، فإنهم إن فعلوا ذلك نالوا لذة الحج وعاشوا روحانيته ، وما حرم كثير من المتعبدين أثر العبادات وتحقق مقاصدها إلا لما أصبحت جوفاء من الاستشعار فاقدة لروحها الذي هو حضور القلب فيها .
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتِنانِه، وَأَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظيمًا لشأنِه، وأَشهدُ أنَّ نبيَّنا مُحمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُه الدَّاعِي إِلى رِضْوَانِهِ، صلِّى اللهُ عليه وعلى آلِه وَأصحابِه وَإِخْوَانِهِ وسلِّمَ تَسلِيماً كَثِيراً . أَمّا بَعْد:
عباد الله : من حكم الحج ومقاصده : ما يشهده الحجاج من منافع لا تحصى كثرة ، من دينية ودنيوية أشار الله تعالى إليها بقوله (( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ )) , فكم كان موسم الحج على مر السنين مناسبة للقيا العلماء ، وتتلمذ الطلاب على الأشياخ ، وكم تصححت في الحج من عقائد باطله وهديت عقول منحرفة للسنة بعدما سمعوا مواعظ العلماء في مجالسهم في الحج ، وكم وكم من المنافع الدينية فضلا عن المنافع الدنيوية التي رفع الله الجناح عن الحجاج في ابتغائها : (( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ )) من تبادلٍ للبضائع والتجارات وحصول للمكاسب المباحات ونحوها من مما يبتغيه الناس .
من حِكم الحج الجليلة : ترسيخ مبدأ الوحدة بين المسلمين ، والأخوة بين عباد الله المؤمنين ، فالمؤمنون إخوة ، وهم كالجسد الواحد وكالبنيان يشد بعضه بعضا ، والمسلم أخو المسلم ، فاجتماع هذه الجموع من المؤمنين قادمين من كل فج عميق بمختلف الألوان ويتكلمون بشتى لغات اللسان ، قاصدين مكانا واحدا ، متعبدين لرب واحد ، متبعين نبيا واحدا ، لابسين زيا واحدا ، مرددين شعارا واحدا ، كل هذا يرسخ في النفوس مبدأ الوحدة والإخاء بين المؤمنين ، فيذلون لبعضهم ويتواضعون ويتحابون ويتآلفون ويتلاطفون ويتعارفون ويتعاونون ويتناصحون وتظهر بينهم كثير من محاسن الأخلاق وتزول كثير من مساويها .
هذا هو الذي وحدهم : وحدة المعتقد والمقصد والمُعَظَّم ، ووحده التعبد والمسلك ، ووحدة الشعار . ومن هذا نأخذ درساً بأن اختلاف المعتقدات واختلاف المسالك والشعارات يفرق الأمة ويجعلها شيعاً وأحزاباً (( كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ))
فلن يوحد الأمة إلا عقيدة التوحيد ومنهج السنة والجماعة وطريقة سلف الأمة ، هذا هو صراط الله المستقيم ، وما سواه سبل تتفرق بالأمة .
فما أحوجنا في هذا الوقت لتحقق هذا المقصد في حياتنا وجميع أوقاتنا .
عباد الله : وإن من مقتضيات الأخوة بين عباد الله المؤمنين : أن نستجيب لأمر ولي أمر المسلمين في بلاد الحرمين والذي نظم نظاماً لموسم الحج يقضي بمنع الحج لمن أدى الحج إلا بعد خمس سنوات ، وذلك لمصلحة حجاج بيت الله الحرام نظراً لمحدودية استيعاب المسجد الحرام ومشاعر مكة .
وكذلك من مقتضيات الأخوة : أن نستجيب هذه السنة خاصة من حج الفريضة لتخفيض ولي الأمر نسبة حجاج الداخل إلى النصف ، لظرف أعمال توسعة الحرم الشريف ، فنؤجل التطوع بالحج لعام قادم .
اللهم اجعلنا من المعظمين لك ولشعائرك وحرماتك ، اللهم يسر للحجيج حجهم ، اللهم يسر للحجيج حجهم، اللهم يسر للحجيج حجهم، اللهم اجعل حجهم مبرورا وسعيهم مشكورا وذنبهم مغفورا وردهم إلى أوطانهم سالمين غانمين، اللهم وفق العاملين على المشاعر بتوفيقك وأيدهم بتأييدك وضاعف أجورهم يا أرحم الراحمين، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت يا أرحم الراحمين، اللهم أعذنا والمسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم احفظ ألسنتا من الحرام والآثام ، واستعملها في طاعتك يا رحمن يا رحيم، اللهم إنا نسألك فواتح الخير وجوامعه وأوله وآخره، اللهم إنا نعوذ بك من شرور الشياطين وكيدهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الظلمة المعتدين اللهم عليك بالنصيريين الظالمين الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أولياءك، اللهم عليك بهم إنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل بهم نقمتك وأرنا فيهم عجائبك اللهم إنهم آذونا في بلادنا وفي إخواننا وفي أموالنا، اللهم إنهم حاربوا دينك ومن تدين به ظاهراً وباطناً اللهم سلّط عليهم من يسومهم سوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم أنزل عليهم رجزك وعذابك إله الحق، اللهم أنجِ المستضعفين من المؤمنين في سوريا اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمين، اللهم فرج عن إخواننا المؤمنين ، اللهم ارحم ضعفهم وتولَّ أمرهم واجبر كسرهم وعجّل بفرجهم ونفّس كربهم، اللهم أحقن دماءهم واستر عوراتهم وآمن روعاتهم اللهم وارحم ميّتهم واشف مريضهم وأطعم جائعهم واكسِ عاريَهم واحمل فقيرهم وثبت أقدامهم وكن لهم عوناً ونصيراً ومؤيداً يا ذا الجلال والإكرام يا أرحم الراحمين يا حيّ يا قيوم، اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، واقض الدين عن المدنين، اللهم لا تقتلنا بعذابك ولا تهلكنا بغضبك وعافنا بين ذلك، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وتولّ أمرنا وأصلح أعمالنا وأحوالنا وقلوبنا، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catsmktba-121.html
وللمزيد من الخطب السابقة عن موسم الحج تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catsmktba-130.html
|