السادس من ذي الحجة 34هـ
الحمد لله واسع الفضل والإحسان ، الكريم المنان ، الرحيم الرحمن ، الحي القيوم ، لا تأخذه سنة ولا نوم ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في أي مكان .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، فهو المستحق للحمد في كل مكان وزمان .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، } يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ { وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، فيا عباد الله :
تقوى الله U ، وصيته سبحانه للأولين والآخرين من عباده ، فهو القائل في كتابه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
اليوم ، هو اليوم السادس من عشر ذي الحجة ، التي أقسم الله U بها لعظمتها ، والعظيم لا يقسم إلا بشيء عظيم ، يقول تبارك وتعالى : } وَالْفَجْرِ ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ { يقول ابن كثير في تفسيره : الليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة.
فهذه العشر العظيمة الكريمة ـ أيها الأخوة ـ العمل الصالح فيها ، ليس كغيرها في سائر الليالي والأيام ، ففي الحديث الصحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ يقول النبي r : (( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ )) ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : (( وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ، وَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )) .
فحري بنا ـ أيها الأخوة ـ كمسلمين يحرصون على ما يحبه ربهم ، ويبحثون عن أي شيئ ، يقربهم من خالقهم U ، أن نستغل هذه الأيام ، وأن نستثمرها بالأعمال الصالحة ، ومن أهمها : كثرة ذكر الله U ، ففي الحديث الصحيح ، أن النبي r ، بعد بيانه لفضل العمل الصالح في هذه الأيام ، ومحبة الله U له ، قال r : (( فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ من التَّهْلِيلَ والتسبيح , وَالتَّكْبِيرَ وَالتَّحْمِيدَ )) .
فالتهليل والتسبيح والتكبير والتحميد ـ أيها الأخوة ـ وخاصة في هذه الأيام ، عبادة عظيمة يحبها الله U ، بل جاء الأمر عن طريق رسوله r بالإكثار منها ، ولذلك يقول مجاهد ـ رحمه الله ـ : كان أبو هريرة وابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ يخرجان أيام العشر إلى السوق ، فيكبران ، فيكبر الناس معهما ، لا يأتيان السوق إلا لذلك .
فينبغي ـ أيها الأخوة ـ أن نحرص ، وخاصة في هذه الأيام ، على الإكثار من قول : لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والله أكبر ، والحمد لله ، أو ولله الحمد . عبادة سهلة ميسرة ـ أيها الأخوة ـ لا تحتاج إلى بذل مال ولا جهد ولا وقت ، ولكنها تحتاج إلى مجاهدة للنفس والغفلة والشيطان .
أيها الأخوة المؤمنون :
ومن الأعمال الصالحة التي ينبغي أن نحرص عليها ، ونتقرب إلى الله U بها ، في هذه الأيام الفاضلة : صيام يوم عرفة ، والذي يوافق يوم الاثنين القادم ، فهو يوم عظيم ،
صيامه يكفر ذنوب سنتين ، التي قبله والتي بعده ، هذا ما أخبر به النبي r ، الذي لا ينطق عن الهوى ، ففي الحديث الصحيح ، الذي رواه الإمام مسلم ،عن أَبي قتادة t قَالَ : سُئِلَ رسول الله r عن صَومِ يَوْمِ عَرَفَةَ ، فقَالَ : (( يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَالبَاقِيَةَ )) .
تدرون ـ أيها الأخوة ـ ما معنى : يكفر ؟
أي تمحى ذنوب وخطايا سنتين ! فرصة أيها الأخوة .
والله ـ أيها الأخوة ـ لو أعلن بنك من هذه البنوك ، التي تزاحمنا على معيشة أطفالنا ، أن من صام شهرا ، محي دينه ، لصام أكثرنا شهورا .
فسبحان الله ، ما أضعف تصديقنا بما وعد ربنا U !
أيها الأخوة المؤمنون :
وفي ختام هذه الأيام العشر ، سيكون عيد الأضحى ، فاليوم العاشر من هذه الأيام هو أول أيام العيد ، ويوم عيد الأضحى يوم عظيم ، قد رأى بعض أهل العلم ، أنه أفضل أيام السنة على الإطلاق ، رأى بعضهم أنه أفضل حتى من يوم عرفة ، يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ : خير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر، كما في السنن لأبي داود عنه r قال : (( إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ )) ، ويوم القر : هو يوم الاستقرار في منى ، وهو اليوم الحادي عشر، الذي بعد العيد .
وبعض العلماء قالوا : يوم عرفة أفضل ، لأن صيامه يكفر سنتين ، وسواء كان هو أفضل أم يوم عرفة أفضل ، فعليك ـ أخي المسلم ـ أن تحرص على ما يقربك إلى الله U في ذلك اليوم . ومن ذلك ـ أخي ـ : الحرص على صلاة العيد ، وحضورها مع المسلمين ، فقد رجح بعض أهل العلم ، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية بأن صلاة العيد واجبة ، واستدلوا بقوله تعالى : } فَصَلّ لِرَبّكَ وَٱنْحَرْ{ ، ولا تسقط عن أحد إلا بعذر شرعي ، حتى النساء ، عليهن أن يصلين العيد ، ويشهدن صلاة العيد مع المسلمين ، بل حتى الحيض ، إلا أن الحيض يعتزلن المصلى .
فإذا كانت المرأة الحائض ، التي تعفى من الصيام والصلاة والجماع ومس المصحف والطواف ، يستحب لها أن تخرج لتسمع موعظة العيد ، فكيف تطيب نفسك في بيتك ، أقعدك عدم احتسابك لأجر ربك U .
فاحرص ـ أخي وفقك الله ـ ونصرك على نفسك وشيطانك ، احرص على حضور صلاة العيد ، أخرج إليها مغتسلا متطيبا ، فإنه يستحب : الاغتسال والتطيب للرجال ولبس أحسن الثياب ، بدون إسراف ولا إسبال ، وأما حلق اللحى الذي يعتقد بعض الناس أنه يتزين به ، فهو والله ليس بزينة ، وكيف تكون الزينة بما حرم الله ، فلنحذر مخالفة السنة يا عباد الله .
ومنها أيها الإخوة ، أنه من السنة لمن كان له أضحية أن يذبحها بعد صلاة العيد ، من السنة أن لا يطعم شيئاً قبل صلاة العيد حتى يذبح أضحيته فيأكل منها بعد الصلاة ، فهذا من سنة النبي r فقد كان صلوات ربي وسلامه عليه لا يطعم حتى يرجع من المصلى فيأكل من أضحيته.
أسأل الله لي ولكم علماً نافعاً ، وعملاً خالصاً، وسلامة دائمة ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا هو تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد أيها المسلمون :
ومن العبادات العظيمة ، في نهاية هذه الأيام الفاضلة ، التي يتقرب بها إلى الله تعالى الأضحية ، والأضحية ـ أيها الأخوة ـ هي سنة أبينا إبراهيم ـ عليه السلام ـ الذي أمرنا باتباع ملته ، وسنة نبينا محمد r ، فقد كان r يضحي منذ هجرته إلى أن توفي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فالأضحية مشروعة بالكتاب والسنة ، بل وإجماع المسلمين ، وهي سنة مؤكدة ، لا ينبغي للقادر أن يتركها ، ولا تجوز إلا من بهيمة الأنعام ، وهي : الأبل والبقر والغنم ، لقول الله تعالى : } وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ { ويشترط في ذلك العمر ، فلا يجزي من الأبل إلا ما بلغ خمس سنوات ، ومن البقر إلا ما بلغ سنتين ، ومن الغنم ما بلغ ستة أشهر من الضأن وسنة من المعز ، أما ما قل عمره عن ذلك فلا يجزي كأضحية ، حتى ولو كان لحمه أطيب عند بعض الناس ، ومن الخطأ ـ أيها الأخوة ـ أن يضحي الإنسان عن أمواته ويترك نفسه وأهل بيته الأحياء ، وأشد خطاء من يضحي عن ميت له أول سنة بما يسميها بعضهم : أضحية الحفرة أو الدفنة ، ويعتقد أنها واجبة ، ولا يشرك فيها أحد ، فهذه بدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا في سنة رسوله r ، ولا في عمل الصحابة رضي الله عنهم ، وفي الحديث يقول النبي r : (( فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ )) .
أيها الأخوة المؤمنون :
ومن الشروط الهامة في الأضحية ، سلامتها من العيوب ، لأن النبي r يقول : (( أَرْبَعٌ لاَ تَجُوزُ الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا وَالْعَجْفَاءُ الَّتِى لاَ تُنْقِى )) .
وأما العيوب التي دون ذلك ، فيقول الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ لا تمنع من الإجزاء ، فتجزئ الأضحية بمقطوعة الأذن وبمشقوقة الأذن مع الكراهة ، وتجزئ الأضحية بمكسورة القرن مع الكراهة ، وكلما كانت الأضحية أكمل في ذاتها وصفاتها وأحسن منظراً فهي أفضل ، فاستكملوها - عباد الله - واستحسنوها وطيبوا بها نفساً ، واعلموا أن ما أنفقتم من المال فيها فإنه ذخر لكم عند الله U : } وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مرضاة اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ { .
اللهم وفقنا جميعاً لتعظيم شعائرك والعمل بشريعتك والوفاة عليها إنك جواد كريم . اسأل الله U أن يهدي ضال المسلمين وأن يرزقني وإياكم الفقه في الدين ، وأن يجعلني وإياكم من عباده الصالحين المخلصين ، إنه سميع مجيب . اللهم إنا نسألك نصر الإسلام وعز المسلمين ، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين ، اللهم احمي حوزة الدين ، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين ، اللهم آمنا في أوطاننا واستعمل علينا خيارنا واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين . اللهم أغثنا ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا غيثا مغيثا ، هنيئا مريعا سحا غدقا عاجلا غير آجل نافعا غير ضار ، اللهم اسق عبادك وبهائمك وانشر رحمتك على بلدك الميت ، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا . } رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة عن موسم الحج تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catsmktba-130.html |