تفسير سورة القدر
والحث على الاجتهاد في آخر رمضان
إن الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْْ اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ . ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ . ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِين ءَامَنُواْ اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ . أمّا بعد، فَإِنَّ خَيْرَ الكَلامِ كَلاَمُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وسَلَّم، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ
أيها المسلمون: قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) ﴾ .
يذكر الله تعالى: أنه أنزل القرآن العظيم, في ليلة القدر, والمراد أنه ابتدأ إنزاله في ليلة القدر، وليلة القدر في رمضان لا شك في هذا ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾. فإذا جمعت هذه الآية, إلى قوله: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ تبين أن ليلة القدر في رمضان.
والقَدْر: يشمل معنيين, الأول: الشرف كبير. والثاني: التقدير، لأنه يُقَدَّر فيها ما يكون في السنة لقول الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حكِيم ﴾. أي يُفَصَّلُ ويُبَيَّن ويُقَدَّر فيها ما يكون في السنة من الإحياء والإماتة والأرزاق وغير ذلك. ثم قال جل وعلا: ﴿ وما أدراك مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾ هذه الجملة بهذه الصيغة يستفاد منها التعظيم والتفخيم، لِعِظَمِ شأنها وقدرها. أي فإن شأنَها جليل وقدرَها عظيم. ثم بين هذا بقوله: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ ألْفِ شهْر ﴾ وهذه الجملة كالجواب للاستفهام الذي سبقها، وهو قوله: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾. الجواب: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّن ألف شَهْرٍ ﴾، والمراد بالخيّريةِ هنا: ثوابُ العمل فيها، وما يُنَزِّل الله تعالى فيها من الخير والبركة على هذه الأمة. وهذا مما تندهش له العقول, حيث مَنَّ الله على هذه الأمة بِلَيلةٍ يكون العمل فيها يُقابِلُ ويزيد على عَمَلِ رَجُلٍ استمر في العبادة ألف شهر, أي ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر. فيا له من فضل لا يُحْرَمُه إلا محروم.
ثم ذكر الله تعالى ما يحدث في تلك الليلة فقال: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ﴾ أي تنزل شيئًا فشيئًا؛ لأن الملائكة سكان السموات، والسموات سبع فتتنزل الملائكة إلى الأرض شيئًا فشيئًا حتى تملأ الأرض. ونزول الملائكة في الأرض عنوان على الرحمة والخير والبركة. ﴿ وَالرُّوحُ ﴾: هو جبريل عليه السلام، خَصَّهُ الله بالذكر لشرفه وفضله. وقوله تعالى: ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِم ﴾ أي أن نزول الملائكة بهذا العدد الكثير يكون بإذن الله وأمره. وقوله: ﴿ مِّن كُلِّ أَمْر ﴾ قيل: إن ﴿ مِنْ ﴾ بمعنى الباء أي بكل أمر مما يأمرهم الله به. ﴿ سَلامٌ هِيَ ﴾ أي هذه الليلة سالمة من كل آفة وشر لِكَثرةِ خيرِها، وكثرةِ من يسلم فيها من الآثام وعقوباتها.
وليلة القدر أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها: ( طَلْقةٌ سَمْحَة, لا حارَّة ولا باردة, تُصبح الشمس في صبيحتها ضعيفةً حمراء ). أي لا شعاع لها حتى ترتفع. وأخبر أنه: ( لا يُرْمَى فيها بِنَجم ). وأخبر أيضا أن: ( الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى ).
وهي في العشر الأواخر من رمضان من غير تحديد, حيث ثبت أنها كانت ليلة إحدى وعشرين, وليلة ثلاث وعشرين, وليلة سبع وعشرين, وثبت الأمر بالتماسها في السبع والتسع والخمس. وثبت أن القرآن نزل في ليلة القدر لأربع وعشرين مضت من رمضان, لما رواه الطبراني عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الإِنْجِيلُ لِثَلاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ لِثَمَانَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ لأَرْبَعٍ عَشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ ).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ،
عباد الله: إيّاكم والتفريط فيما بقي من ليالي هذا الشهر, وتزوّدوا من الأعمالِ الصالحةِ والمحافظةِ على صلاةِ الليلِ, واجعلوا ذلك سبباً لاستمراركم على صلاة الليل بعد رمضان. واجتهدوا في الدعاء لأنفسكم بالمغفرة والرحمة والقبول, وأكثروا من الدعاء لإخوانكم المسلمين في كل مكان. وأن ينصر الله الإسلام وأهله, وأن يرفع البلاء عن المسلمين.
واحرصوا يا عباد الله على حثِّ أولادِكم ونسائِكم على الصلاةِ والعبادةِ في هذه الليالي فإنّ من الاجتهادِ الذي كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو إيقاظُ أهلِه في هذه الليالي. ومَنْ كانت مِن نسائِهِ حائضاً فلْيُخبرها أنّ الخير ليس مقصوراً على الصلاة. وليُحثّها على كثرةِ الذكرِ والاستغفارِ, والدعاءِ وقراءةِ القرآنِ. فإنّ الحائض أو النفساء وإن كانت لا تَمس القرآن, لكنها تقرأ عن ظهر قلب أو تلبس القفازين وتحمل المصحف ولا حرج عليها في ذلك.
اللهم تقبل منا الصيام والقيام, ووفقنا فيما بقي من الليالي والأيام، وتجاوز عن التقصير والآثام، اللهم تقبل صيامنا وقيامنا، اللهم تقبل صيامنا وقيامنا ولا تردنا خائبين، اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك والعتق من نارك والفوز بجناتك يا حيّ يا قيوم، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار يا أرحم الراحمين، اللهم اقبل من المسلمين صيامهم وقيامهم واغفر لأحياهم وأمواتهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين وأذلّ الشرك والمشركين واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين في كل مكان اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم عليك بالرافضة والبعث العلويين الذين آذوا إخواننا في بلاد الشام، وعليك باليهود الذين استحلوا بلادنا ودماء إخواننا في فلسطين، وعليك بالوثنيين البوذيين الذين استحلوا دماء وأعراض إخواننا في بورما، اللهم عليك بهم, فإنهم لا يعجزونك. اللهم اشدد وطأتك عليهم واطمس على أموالهم واشد على قلوبهم وأنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، وسلط عليهم منْ يسومهم سوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وعقيدتها وأمنها وعزتها وسيادتها، اللهم احفظها ممن يكيد لها يا رب العالمين، اللهم وفق حكامها وأعوانهم لما فيه صلاح أمر الإسلام والمسلمين، وبصّرهم بأعدائهم يا حيّ يا قيوم، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
|