أدرك شهرك
22-9-1433هـ
الحمدُ للهِ ، خالق الموت والحياة ، الآمر باغتنام الأوقات قبل الفوات ، القائل في كتابه لعباده : } وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ { . أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه ، له الحمد في الأرض والسموات .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ، لا شريك له في الربوبية ولا في الإلوهية ولا في الأسماء ولا في الصفات .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، كانت كل أوقاته طاعات ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى أن يرث الله الأرض والسماوات ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U ، وصية الله لكم ولمن كان قبلكم ، يقول سبحانه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { فاتقوا الله ـ عباد الله ، وتفقدوا أنفسكم في جانب التقوى ، وهي الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والقناعة بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل ، كما عرفها علي بن أبي طالب t .
حاسب نفسك أخي ، هل أثرت فيك ، أكثر من عشرين يوما مضت من رمضان ، فأثمرت فيك التقوى ، فصرت تخاف من الله ، وتعمل بكتابه ، ورضيت بما قسم لك ، وصرت مستعدا للموت ، أم لم يتغير فيك شئ ، لم تزل وكأنك لم تدرك شهر رمضان ، حظك الجوع والعطش والسهر ، كما قال النبي r في الحديث الصحيح : (( رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ ، ورُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ )) .
أيها الأخوة المؤمنون :
يقول U : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ { فالتقوى ثمرة من ثمار الصيام ، وهاهو شهر الصيام دنى رحيله ، مضت أيامه ولياليه ، وقربت نهايته ؛ فنحن اليوم في اليوم الثاني والعشرين منه . أكثر أيام رمضان مضت وكأنها ساعة من نهار . من منا ـ أيها الأخوة ـ من يتذكر ما مر عليه في تلك الأيام ؟ أيام مرت ولا يُذكر مما حدث فيها شيئا !
المحسنون الذين أحسنوا في هذه الأيام ، فأتعبوا أنفسهم بالامتناع عن الشهوات ، وأتعبوا أجسادهم بالقيام والصيام ، والبعد عن المحرمات ، وتقربوا إلى الله بأنواع من الطاعات ، الآن لا يحسون بتعب طاعتهم و لا بمشقة إحسانهم .
وكذلك المفرطون الذين ألهتهم شهواتهم وملذاتهم ؛ فقضوا أوقاتهم بما تهواه وتشتهيه أنفسهم ، فتلذذوا بأنواع الراحة والمتعة ، التي شغلتهم عن استغلال شهرهم ، بما يقربهم من خالقهم . أيضا لا يحسون الآن في شيء من لذة شهواتهم وملذاتهم . انتهت مشقة الطاعات ، وذهبت لذة الشهوات ولم يبق إلا الحسنات والسيئات :
تفنى الذاذاتُ ممن نالَ صفوتَها
من الحرامِ ويبقى الإثمُ والعارُ
تبقى عواقبُ سوءٍ في مغبتِها
لا خير في لذةٍ من بعدها النارُ
أيها الأخوة :
وحتى وإن مضى من رمضان أكثره ؛ فأفضل ما في شهر رمضان ، هو هذه الأيام ، ولعل خير من يقتدى به ، وخاصة في هذه الأيام ، النبي r كما قال تعالى : } لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا { .
إذا كان الناس في هذه الأيام ، تشغلهم الأسواق ، والبحث عن كل جديد ، وقضاء الأوقات الثمينة في البيع والشراء ، فإن المسلم يحرص على الإقتداء بنبيه e ، الذي كان يُغيّر ، في مثل هذه الأيام - مما اعتاد عليه ، فإنه - صلوات ربي وسلامه عليه - يجتهد في رمضان منذ دخوله ، ولكنه إذا دخلت العشر الأخيرة منه ، اجتهد أكثر ؛ تقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ : كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره ، وفي الحديث المتفق عليه تقول : إذا دخل العشر شد مئزره ، و أحيا ليله ، وأيقظ أهله .
تأملوا ـ يا عباد الله ـ ماذا كان يفعل نبيكم ، قدوتكم ، e ؛ إنه يغتنم هذه الأوقات الفاضلة ، فالله .. الله ، يا عباد الله ، اقتدوا بنبيكم ، واستغلوا ما بقي من شهركم ، واحذروا التفريط ، فإن الأيام ثمينة ، وسوف تمضي وتنقضي كما مضى وانقضى غيرها من الأيام ، ومن يدري فربما يكون هذا الشهر ، هو آخر شهر تصومه يا عبد الله في حياتك ، بل ربما يدركك الأجل قبل أن تتم هذا الشهر ، فالله ... الله ... في مضاعفة الجهود ، وبذل الطاقات فيما بقي من أيام وليال مباركة ، والحذر من التفريط أو الكسل والفتور .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن الذي يفرط في هذه الأيام ، يفوت عليه خير كثير ، فهي عشر العتق من النار ، وقد تكون فيها ليلة القدر ، التي هي خير من ألف شهر كما قال تعالى : } لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ { والتي قال عنها النبي e : (( في شهر رمضان ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم )) .
فاغتنموا ـ يا عباد الله ـ ما بقي من شهركم ، واحرصوا على ما يقربكم من خالقكم .
اسأل الله U لي ولكم علما نافعا وعملا خالصا وسلامة دائمة إنه سميع مجيب . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها المسلمون :
إن استغلال ما تبقى من شهر رمضان ، يكون بالعمل الصالح ، ومن الأعمال الصالحة ، المهمة في مثل هذه الأيام ، الإنفاق في سبيل الله ، فسوق الإنفاق رائجة ، الشياطين مصفدة ، وأبواب الجنة مفتحة ، وأبواب النار مغلقة ، ومناد الخير ينادي : يا باغي الخير أقبل ، وثم أمر آخر ؛ هو حاجة الفقراء والمحتاجين . فجودوا يا عباد الله وأنفقوا ؛ ولكم في نبيكم e أسوة ؛ ففي الحديث عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : كان رسول الله e أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان ، حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان ؛ فيدارسه القرآن ؛ فلرسول الله e أجود بالخير من الريح المرسلة .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن في الإنفاق في سبيل الله ، الدليل على الإيمان ، فأهل الإيمان هم أكثر الناس إنفاقا ، هم كما وصفهم الله : } يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً { فماذا كان جزاؤهم ؟ قال تعالى : } فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ { .
أخي المسلم ! عبد الله !
عندما تجد في نفسك عزوفا وصدودا عن الإنفاق ؛ بادر وسارع إلى ما يزيد في إيمانك ! فالمؤمنون الكمل ، لا يتأخرون عن الإنفاق ، بل هم كما وصفهم الله تعالى : } الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {.
أيها الأخوة المؤمنون :
وقد ذكر الله U لنا في كتابه ، صنفا من الناس ، لنحذر من سلوك سبيلهم ، ومن عاداتهم السيئة ، ومنها عدم الإنفاق ، فقال عن المنافقين : } الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ { المنافقون والمنافقات ، رجال ونساء ، بعضهم من بعض ، ماهي صفاتهم ؟
قال تعالى : } يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ { يقبضون أيديهم عن الإنفاق ، لا يستطيع أحدهم أن يرد يده إلى جيبه ، تعجز يده عن فتح محفظته ، ليخرج مبلغا من المال ليتصدق به .
أتدرون لماذا ؟ لأنهم يخافون الفقر ! ليس عندهم إيمان يدفعهم للإنفاق ! ليس عندهم تصديق جازم بأن ما أنفقوا سوف يخلف عليهم . يقول تبارك وتعالى : } الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {.
أيها الأخوة المؤمنون :
إنها دعوة صادقة ، لنعود أنفسنا على الإنفاق ، فهذا شهر الإنفاق ، ولنعود أنفسنا على الجود ، فهاهو شهر الجود ، ولنكن على يقين بأننا إذا أنفقنا فإنما ننفق لأنفسنا ، يقول الله تبارك وتعالى : } وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ { .
اسأل الله U أن يجعلني وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، اللهم يا كريم يا غفار ، يا رحيم يا ستار ، اللهم أعذنا من دار البوار ، وخفف ظهورنا من حمل الأوزار ، واجعلنا ووالدينا في هذا الشهر الكريم من عتقائك من النار .
اللهم احشرنا في زمرة السعداء والمتقين ، وألحقنا بالصالحين ، وتوفنا مسلمين ، ولا تجعل مصيبتنا في الدين ، ولا من رحمتك محرومين ، ولاعن بابك مطرودين . اللهم ربنا تقبل توباتنا ، واغسل حوباتنا ، واجب دعواتنا ، واهد قلوبنا ، وسدد ألسنتنا ، وثبت حجتنا ، واسلل سخيمة قلوبنا .
اللهم إن للصائم دعوة مستجابة ، فاللهم فرج هم المهمومين من المسلمين ، ونفس كرب المكروبين ، اللهم فرج عن المسلمين في سوريا وفي بورما ، اللهم اجعل لهم من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا ، ومن كل بلاء عافية .
} رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله : } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر ، والله يعلم ما تصنعون .
|