إياكم والفتور عن طاعة الله
15/ رمضان/ 1433هـ
إِنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) (( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )) .
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
أيُّ رمضان رمضانك أيها الصائم ؟ هل هو رمضان المسارعين المُجدّين أهل العزائم والهمم العالية الذين لا يرضون بالدون بل لا يرضون إلا بأعلى عليين . أم أن رمضانك رمضان الكسالى والمسوّفين رمضان المنهزمين أمام الهوى وتزيين الشياطين .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما رأيت مثل الجنة نام طالبها ) [ حديث حسن أخرجه الترمذي وغيره ] يعني : كيف ينام ويكسل عن الطاعة طالب الجنة ، وقال صلى الله عليه و سلم : ( لما خلق الله عز و جل الجنة قال : يا جبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها فقال : يا رب وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها ، ثم حفها بالمكاره ثم قال لجبريل : اذهب فانظر إليها ، فذهب فنظر إليها فقال : يا رب وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد ) [ حديث صحيح أخرجه أحمد وأبو داوود والترمذي وابن ماجه ] ، وفي البخاري قال عليه الصلاة والسلام : ( حُجبت الجنة بالمكاره ، وحجبت النار بالشهوات ) فمن أراد الفوز بالجنة والدرجات العالية فعليه بتصبير النفس وإكراهها على المكاره التي تناله من امتثال الأمر واجتناب النهي . ومن أراد النجاة من النار فعليه بتصبير النفس عن الشهوات المحرمة فإن الوقوع في الشهوات سائق إلى النار والدركات . فاجعلوا ما بقي من شهر صومكم عباد الله جهاداً متواصلاً ضد شهوات النفس , واجتهاداً وسيراً إلى الله بالعبادة والطاعة حتى منتهى أيامه .
إيّاكم عباد الله والفتور عن طلب الجنة ودرجاتها , فإنها غالية ، والغالي لا بد للفوز به من جهد وصبر ومواصلة سير وثمن كثير وكبير ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( ألا إن سلعة الله غالية , ألا إن سلعة الله الجنة ) أخرجه البخاري ، فاحذروا تخذيل الشيطان , وتزيينه , وتسويله وتسويفه .
عباد الله : لم تزل أبواب الجنة الثمانية مفتحة ، باب الصلاة وباب الصدقة وباب الجهاد وباب الريان الذي أعد لأهل الصيام ، وبقية الأبواب ، لم تزل مفتوحة ترغيبا وتشجيعاً للطالبين والخاطبين .
ولم يزل منادي الكريم ينادي : يا باغي الخير أقبل . يا باغي الجنة ازدد إقبالاً وعبادة وإنابة ، وإياك والتراجع والكسل والإضاعة .
فقووا عزيمتكم أيها المؤمنون بتذكر ذلك اليوم العظيم الذي تفتح فيه أبواب الجنة لأهلها ويجدون ريحها قبل أن يدخلوها ،فيكون أول من يدخلها أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وليعظم رجاؤكم بأن تكونوا في ذلك الوفد السعيد (( هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ )) (( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ )) ، فتسمعون منادي الرحمن يناديكم من باب الريان : أيها الصائمون تعالوا فادخلوا الجنة : ( إن في الجنة باباً يقال له الريان ، يدخل من الصائمون ، فإذا دخلوا منه أغلق فلم يدخل منه أحد ) متفق عليه ، ومن العباد من يدعى من أكثر من باب ، بل ربما يدعى من أبواب الجنة الثمانية . فإذا دخلتم منه فلن تروا البؤس والعناء ولن تعرفوا الظمأ والجوع والشقاء (( فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ )) (( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ )) , يُعطى الواحد من أهل الجنة قوة مائة رجل في الطعام والشراب والجماع .
وَإِنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ أبواب الْجَنَّةِ، مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلِيَأْتِيَنَّ عَلَيْهِ يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ، كما جاء في الصحيح ، يزدحم عليه أهل الجنة وهم داخلون إليها ثم يُهدون إلى منازلِهم كمعرفتهم منازلهم في الدنيا وأشد، فتستقبلُهم أزواجُهم الحور العين كالملوك فيقع في قلوبهم من الفرح ما يموتون به لو كانوا في الدنيا .
فما أعظمه من فوز وفلاح عندما تكون ممن ينادون (( وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )) وممن يُقال لهم (( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ )) .
عباد الله : يناديكم نبيكم صلى الله عليه وسلم فيقول : ( اصبروا حتى تلقوني على الحوض ) أخرجه البخاري , فاصبروا على طاعة ربكم وتنفيذ أوامره , واصبروا على التمسك بالتوحيد والسنة واجتناب الشرك والبدعة , واصبروا عن المحرمات ، واصبروا على ما أصابكم ، وموعدكم مع نبيكم على الحوض المورود ، لتردوا عليه بعد عطش المحشر وكربته وتشربوا منه شربة هنيئة لا تظمئون بعدها أبداً ، من ماء أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأبرد من الثلج .
فاللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء يا أرحم الراحمين . واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله الدَّائم توفيقه، المتواتر عطاؤه وتسديده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحق المبين، وأشهد أنَّ محمدًا خاتم النبيّين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين . أما بعد:
عباد الله : يوصيكم نبي الرحمة والهدى عليه الصلاة والسلام فيقول : ( افْعَلُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) . [ حديث حسن أخرجه الطبراني , وقال الهيثمي : إسناد رجاله رجال الصحيح . وحسنه الألباني ] . وأنتم في أيام وليلي النفحات ، فاللهم أصبنا برحماتك فنحن أفقر ما نكون إليها.
يا أيها الصائمون : اغتنموا زمن الأرباح , فأيام مواسمكم معدودة , وأوقات الفضائل محدودة , وفي رمضان كنوز ونفحات غالية فلا تضيعوها باللهو والغفلة , فإنكم لا تدرون متى ترجعون إلى الله , وهل تدركون رمضان الآخر أو لا تدركون ؟ (( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ))
ألا ترجون وتحبون عباد الله أن توفقوا لإدراك ليلة القدر ليلة الشرف والفضل التي العبادة فيها أفضل من العبادة في ألف شهر ؟ بلى كلنا يحب ذلك ويرجوه ، إذن فلنجتهد في عشرنا المباركة ، فإن الله أخفى ليلة القدر عنا فيها لنجتهد ونصدق في الطلب فيكثر ثوابنا فضلاً منه ورحمة ، لأن العشر أفضل ليالي الدهر .
أيام معدودات وتنقضي أيام التراويح والتلاوة فاستمر يا عبد الله في الإقبال على الطاعة واستعن بربك واسأله التوفيق .
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك . اللهم قبل منا ومن المسلمين الصيام والقيام وتجاوز عن التقصير والآثام، ومُنّ علينا بالمغفرة والعفو والعتق من النار والفوز بالجنان يا كريم يا منان، اللهم وفقنا لاستغلال ما بقي من أيام رمضان بالعمل الصالح الذي ترضاه يا حي يا قيوم، اللهم أصلح أحوالنا وأعمالنا وقلوبنا ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وفقهاً في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم افتح لنا من خزائن رحمتك وتوفيقك يا خير الفاتحين، اللهم منزل الكتاب مجري السحاب هازم الأحزاب اللهم قاتل الظلمة المعتدين الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أولياءك ويسعون في إطفاء نورك، وأنت المتم لنورك ولو كره الكافرون، اللهم عليك بهم إنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل بهم نقمتك وأرنا فيهم عجائبك اللهم إنهم آذونا في بلادنا وفي إخواننا وفي أموالنا، اللهم إنهم حاربوا دينك ومن تدين به ظاهراً وباطناً اللهم سلّط عليهم من يسومهم سوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم أنزل عليهم رجزك وعذابك إله الحق، اللهم أنجِ المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين، اللهم فرج عن إخواننا المؤمنين في الشام وفي بورما، اللهم ارحم ضعفهم وتولَّ أمرهم واجبر كسرهم وعجّل بفرجهم ونفّس كربهم، اللهم أحقن دماءهم واستر عوراتهم وآمن روعاتهم اللهم وارحم ميّتهم واشف مريضهم وأطعم جائعهم واكسِ عاريَهم واحمل فقيرهم وثبت أقدامهم وكن لهم عوناً ونصيراً ومؤيداً يا ذا الجلال والإكرام يا أرحم الراحمين يا حيّ يا قيوم، اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وبصّرهم بأعدائهم والمتربصين بهم يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم إنا نسألك رحمة تُصلح بها قلوبنا وتُفرّج بها كُروبنا وتُيسّر بها أُمورنا وتَشفي بها مرضانا، وتَرحم بها موتانا يا أرحم الراحمين، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب الدعوات.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|