التذكير بالقدر واستغلال العشر
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي قدَّر الأمور وأمضَاها، وعلِمَ أحوالَ الخلائِق قبل خلقهم وقضاها ، وجازى كلَّ نفسٍ بعد ذلك على سُخطِها أو رِضَاها ، كلُّ شيءٍ خلَقه سبحانه بقَدْرٍ وقدَر، ولا يقع شيءٌ في كونه إلا بعِلمٍ منه ونظَر، علِمَ الأجلَ وقدَّر العمَل ، وجعَل الأمور دُوَل ، وكلُّ ذلك منه في الأزَل ، سبحانه كم أحاط علمُه، وكم وسِعَ حلمُه، وكم مضى حكمُه ؛ وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحده لا شريكَ له ، له لطائفُ الحكمة وخفِيَّات القَدَر، وأشهَد أنّ محمّدًا عبدُ الله ورسولُه وخِيرتُه من كلِّ البشر، صلّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلَى آل بيتِه الطاهرين وصحابته الغُرَر، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدّين.
= أما بعد يا أمة محمد e :
فاتقوا الله تعالى واشكروه على آلائه ، فقد فضّل الله هذه الأُمّة على خير الأمم ، وجعل نبيها – عليه الصلاة والسلام- أفضل الرسل ، وكتابها المهيمن على الكتب ، ونصيبها من الجنة يزيد على الشطر - مع أنها أضعف من الأمم السابقة قلوباً وأبداناً وأسماعاً وأبصاراً وأقل منها أعماراً ، لكن بفضل من الله ورحمة جعل أعمالها بحسناتٍ مضاعفه ، فخمس صلوات تعدل خمسين صلاة في الأمم السابقة ، وعوّض أعمارها القصيرة بليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر ، فالعبادة فيها أفضل من عبادة ألف شهر بما يزيد على ثلاثٍ وثمانين سنة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة " - فلله الحمد على فضله ورحمته ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ).
= عباد الله : إن الإيمان بالقدر أحدُ أركان الإيمان ، ولن يتمّ الإيمان حتى يؤمن العبد بالقدر خيره وشره ، ويُوقن أن الله خالق كل شيء ومدبرُه ، وأن ما في السماوات والأرض من صغير ولا كبير ولا حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله وخلقِه ، فما كتب الله على الإنسان لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وإن من الإيمان بالقدر : الإيمان بما يكون من تقدير الله في هذه الليلة الشريفة - ليلة القدر - .
= فأهل السُنة يُقسّمون القدر إلى أربع تقديرات :
الأول: التقدير العام الشامل ، وهو تقدير الله لجميع الأشياء " فإنه لما خلق القلم قال له : أكتب، فجرى بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة " .
التقدير الثاني: التقدير العُمُري ، وهو ما يجري على العبد في حياته من حين كونه جنيناً في بطن أمه ثم يرسلُ اللهُ إليه المَلَك ، فينفخ فيه الروح ويؤمر بكَتْبِ رزقِه وأجله وعمله ، وشقيٍ أو سعيد .
التقدير الثالث: التقدير السنوي وذلك في ليلة القدر ، وقال تعالى: ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) أي يكتَبُ ويفصَل في ليلة القدر كلُ ما سيحدث ويجري عليك في هذه السنة من عِزٍ وذل ، وغنى وفقر ، ومن صحةٍ ومرض ، وحياة وموت وغير ذلك .
التقدير الرابع: التقدير اليومي ، وهو ما سيحدث ويجري عليك في يومك ، ويدل عليه قوله تعالى: ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْن )، ورد في تفسير هذه الآية عن النبي e أنه قال : " مِن شأنه - سبحانه - أن يغفرَ ذنباً ، ويُفرّجَ كرباً ، ويرفعَ قوماً ويضعَ آخرين " رواه ابن ماجه بإسناد حسن، وحسّنه العلامة ابن باز رحمه الله.
فأصبحت تقادير القدر أربعة : تقدير عام وعُمُري وسنوي ويومي.
= عباد الله :
الناس مع القدر على أحوال : فإما أن يُقدّر الله عليهم : النِعم - فعليهم عبودية الشكر ؛ وإما أن يُقدّر الله عليهم : المصائب والمِحن - فعليهم عبودية الصبر ؛ وإما أن يُقدّر الله عليهم الذنب الذي كان سببه مِن قِبَل أنفسهم - فعليهم عبودية التوبة والإستغفار .
وهؤلاء العبوديات الثلاث - الشكر والصبر والاستغفار - هي أعظم مقامات التوحيد ، وأظهر علامات العبد السعيد .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله الذي جعل في السَّنَة أياماً فاضلة وأوقاتاً شريفةً ، الدعاءُ فيها أرجى، والقبول فيها أحرى، وله سبحانه الحكمة البالغة ( يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الأتقياء الأبرار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلّم تسليماً كثيراً ما تعاقب الليل والنهار .
= أما بعد عباد الله : إنَّ مِمَّا خصَّه الله عزَّ وجلَّ من الأوقات بمزيد تفضيله ووافر تكريمه ليلة القدر حيث يكثر فيها تتنَزّل الملائكة والبركات والخيرات إلى مطلع الفجر، وأنَّ مَن قامها إيماناً واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه ، وجعلهَا الله خيراً من ألف شهر .
فيالله ما أعظمها من ليلة، وما أجلها وما أوفر بركتها؟! ليلة واحدة خير من ألف شهر, وألف شهر - عباد الله - تزيد على ثلاثة وثمانين عاما، فهي عمر طويل - لو قضاه المسلم كله في طاعة الله عزّ وجل، فليلة القدر وهي ليلة واحدة خير منه ؛ وهذا فضل عظيم وإنعام كريم.
لأجل ذلك كله كان عليه الصلاة والسلام يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيره ، وكان يوقظ أهله فيها للصلاة والذكر وكان يعتزل نساءه ويعتكف في المسجد ليتفرغ لعبادة ربه جل وعلا وتحرياً لليلة القدر، وحثَّ عليها بقوله e : "التمسوها في العشر الأواخر ، فإن ضعُف أحدكم أو عجز فلا يغلبنَّ على السبع البواقي" ، وأكّد على طلبها في أوتار الشهر .
وإن أفضل ما يكون فيها من الطاعات: الاجتهادَ في الدعاء والإلحاح على الله فيها أن يكتب له العفوَ والعافية ؛ لا سيّما أنَّها الليلةُ التي يُكتب فيها ما يكون على الإنسان في عامه كلِّه من خير وشر ، وحياة وموت .
روى الترمذي عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت: يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ عَلِمْتُ أَيَّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي".
وهذا الدعاءُ المبارك عظيمُ النفع وكبيرُ الأثر، وهو مناسب لهذه الليلة غاية المناسبة ، فهو في تلك الليلة أحوج ما يكون إلى عفو الله ، فإنه سبحانه إذا عفا عن العبد فقد أفلح وفاز وربح أعظم الربح ونال أعلى الخير والتوفيق والعفو هو الإزالة والمحي بالكلية حتى لا يبقى للذنب أثر.
ولأنه ما من شرٍ ونقصٍ وحرمان إلا بسبب معاصي العباد ؛ والعبد أيّاً كان حاله فهو لا ينفك عن تقصير أو ذنب فيحتاج إلى أن يختم عامه بالعفو والمغفرة .
ولهذا فإنَّ من الخير للمسلم أن يكثر من هذه الدعوة المباركة في كلِّ وقت وحين، ولا سيما في ليلة القدر التي فيها يُفرق كلُّ أمر حكيم .
= فاتقوا الله أيها المسلمون , واعلموا أن شهركم قد مضى أكثره ، وبقي أفضله ، فأروا الله من أنفسكم خيرا ، جدّوا واجتهدوا في أنواع العبادة من تلاوة وصدقة وتوبة ودعاء ، ولا تختموا شهركم بالغفلة والكسل والفتور . وإنْ كان شهركم أخذ بالنقص فزيدوا أنتم في العمل ، فعمّا قريب يُقال أنصرف ، وكل شهر فعسى أن يكون فيه خلف ، إلا رمضان فمالكم منه خلف ؟!
= فاللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت ، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد: اللهم وفّقنا في ختام هذا الشهر ، واجعل لنا من عِتقه وعفوه وبركته أوفر الحظ والنصيب.
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وتجاوز عن تقصيرنا وزلاتنا، واجعلنا من عتقائك من النار، اللهم أعتقنا ووالدينا والمسلمين من النار يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنك عفُوٌّ تحب العفو فاعفو عنّا، اللهم إنك عفُوٌّ تحب العفو فاعفو عنّا.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين وأذلّ الشرك والمشركين ودمّر أعداء الدين، اللهم لا تجعل للكافرين منّة على المؤمنين، واجعلهم غنيمة سائغة لهم يا قوي يا عزيز. اللهم عليك بالرافضة المجوس وحزب البعث العلويين والشيوعيين الملحدين الذين آذوا إخواننا في بلاد الشام وسفكوا دماءهم وانتهكوا حرماتهم، اللهم وعليك باليهود الغاصبين الذين استحلوا بلادنا ودماء إخواننا في فلسطين، اللهم وعليك بالوثنيين البوذيين الذين استحلوا دماء وأعراض إخواننا في بورما، اللهم عليك بهم, فإنهم لا يعجزونك. اللهم زلزلهم وَزَلزِلِ الأَرضَ مِن تَحتِ أَقدَامِهِم، اللهم اشدد وطأتك عليهم وارفع عافيتك عنهم وأنزل نقمتك بهم، يا قوي يا متين.
اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، واحفظه من كل شر ومكروه، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا. اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك، اللهم وفقه وإخوانه وأعوانه لما فيه صلاح العباد والبلاد، وهيئ له البطانة الصالحة يا رب العالمين.
اللهم كن للمستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم آمنهم في أوطانهم وأرغد عيشهم واكبت عدوهم. اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الحفيظ العليم أن تحقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين يا رب العالمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا تقبّل منّا إنك أنت السميع العليم، وتبّ علينا إنك أنت التواب الرحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
|