قسوة القلوب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد عباد الله :
اتقوا الله تعالى، واعلموا أن قسوة القلب داء قاتل، ووباء فاتك، فالقلب القاسي مرتع للشيطان، بعيد عن الرحمن، معرض عن الحق، سريع إلى الفسق، ولقد نادى الله المؤمنين نداء يأخذ بالألباب، ويهز المشاعر فقال سبحانه: ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) [الحديد:16]، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "والله ما بين إيماننا وبين أن خاطبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين".
وانظر إلى لفتة بديعة وإشارة لطيفة وفائدة قيمة بعد هذه الآية مباشرة لقوله سبحانه: ( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) [الحديد:17]، وذلك أن الأرض قد تجدب فيقل ماؤها ويذهب بهاؤها، فإذا جاء المطر أزهرت وأثمرت وأورقت وأينعت و( اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) [الحج:5]، كذلك القلب قد يتكدر صفوه ويقل خشوعه ويفتر خضوعه، ولكن إذا سقي بماء القرآن وأسعف برحيق الهدى وصقل بعبير الإيمان ذهبت قسوته وعادت له رقته.
عباد الله:
إن قرب المرء من ربه بقدر حياة الإيمان في قلبه، وإن المتأمل لأحول الناس يجد قلوبا قاسية لا يردها إيمان، ولا تنفعها عبرة، ولا تستفيد من أوقات شريفة، ولا أزمنة مليئة بالعبر كالحوادث والكوارث والرياح والقتل ولا يؤثر فيها سماع القرآن، قست وتحجرت وغلظت وجفت، وأعرضت ونبت، وتاهت عن الحق، وعميت عن الدرب ( فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصّدُور ) [الحج:46].
وهذه القلوب إنما تليّن بالإيمان بالله، فبذكر الله ترق الأفئدة، وبالعمل الصالح تخشع القلوب لخالقها وتلِين القلوب وتذل لبارئها قال تعالى: ( الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ*الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ ) [الرعد: 28-29]
عباد الله:
إن لقسوة القلب أسبابا عديدة وعوامل كثيرة فمن أسباب قسوة القلب:
هجر القرآن الكريم: يقول صلى الله عليه وسلم: « اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَغْلُوا فِيهِ وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ وَلَا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ » رواه أحمد وصححه الألباني.
وهجر القرآن الكريم أنواع فمنها : هجر التلاوة، وهجر التدبر، وهجر العمل به، وهجر الاستشفاع به، وهجر التحاكم إليه، ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا ) [الفرقان:30].
فليس للقلب أنفع دواء من القرآن الكريم قال تعالى: ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) [الزمر:23].
ولما أخذ الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم هذا الكتاب بقوة، وقرؤوه وتدبروه وعملوا بمقتضاه، أصبح لبيوتهم دوي كدوي النحل، فالقرآن أثمر في حياتهم، وقويت به الهمم وعظمت به العزائم وزكت به النفوس وصفت به الأفئدة ورقَّت به القلوب فلم يكن للقراءة على الأموات ولا لزينة على الرفوف وسل نفسك منذ متى لم تقرأ القرآن ؟؟!!
ومنها: التهاون بالذنوب والإصرار عليها بينما المؤمن الحق إذا قارف ذنبا أو ارتكب معصية يسارع بالتوبة ويبادر بالاستغفار وقد ذكر الله تعالى من صفات المتقين: ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) [آل عمران:135]، فالتهاون بالذنوب من أعظم أسباب قسوة القلوب، يقول صلى الله عليه وسلم: « تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا ، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا ، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا ، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا ، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا ، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ » أخرجه مسلم عن حذيفة رضي الله عنه. فكثير من القلوب استمرأت الذنوب، واستهانت بالمعاصي فقل إنكارها وضعف إيمانها فتلاشت حلاوة الإيمان وضعفت غيرتها للرحمن.
ومن أسباب قسوة القلب: التعلق بالدنيا فبعض من الناس من استحوذت الدنيا على تفكيرهم ووقتهم وهمتهم فيصبحون والدنيا أكبر همهم, مجالسهم في الحديث عنها وغضبهم ورضاهم لها، قال صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة» أي هلك طالبها الحريص عليها وعلى جمعها القائم على حفظها حتى غدا عبدا لها.
ومن أسباب قسوة القلب: كثرة الهزل والضحك، فالضحك من علامات الأنس وأسباب السرور، ولكن إذا جاوز حده وتعدى طوره يسبب موت القلب لقوله صلى الله عليه وسلم: « لَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ » رواه أحمد وحسّنه الألباني.
ومن أسباب قسوة القلب: الجليس السوء فجليس السوء شر وبلاء خطر محدق ونكد مزعج فهو كنافخ الكير إما أن تجد منه ريحا خبيثا وإما أن يحرق ثيابك، كثير من الناس دمرت حياتهم وشقيت أنفسهم وشقيت أسرهم بسبب جلساء السوء ورفقاء الضلال وقرناء الباطل.
ومنها: عدم حفظ السمع وغض البصر، فاستماع الحرام يغطي نور القلب ويطمس بصيرة الفؤاد وكذا إطلاق البصر في النظر المحرم قال تعالى: ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ) [الإسراء:36]، وبين النظر والقلب صلة كبيرة، فإن حُفظ البصر حُفظ القلب، وإن أطلق النظر للبصر أثر على القلب وشوش الخاطر ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ) [النور:30].
ومنها: عدم بذل المعروف وإطعام الطعام، فمساعدة الناس والرفق بأحوالهم والإحسان إليهم، والرحمة بهم تزيد خشوع القلب، شكى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال له: « إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ ».
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين . أما بعد عباد الله:
ومن أسباب قسوة القلب: عدم تذكر الآخرة حيث أن نسيان الآخرة ضياع للمرء وظلام للنفس، وقسوة للقلب، فلو أعمل الإنسان عقله، وتفكر وتذكر يوم المعاد والقيام لرب العباد، لخشع قلبه وسكنت جوارحه وخضع فؤاده، فالقلوب تقسو حينما تغفل عن يوم القيامة، وعن تذكر أحوال الساعة، وعن التفكر في القارعة والزلزلة والطآمة والصآخة والتغابن ويوم الدين ويوم التناد ويوم الحسرة ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )، يوم يُبعث ما في القبور ويُحصّل ما في الصدور يوم تزلزل الأرض زلزالها وتخرج الأرض أثقالها، ( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ*وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) [القارعة: 4-5 ]، يوم لا يغني والد عن ولده شيئا ولا مولود عن والده شيئا، ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ*وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ*وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) [عبس: 24-26]، يوم ( تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) [الحج:2]، يوم يُحشر الناس حُفاةً عُراةً غُرّلاً، يوم ينصب الصراط على متن جهنم، يوم تدنو الشمس من العباد قدر ميل فيبلغ العرق منهم كل مبلغ، فمنهم من يبلغ إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً.
اللهم وفقنا لما يرضيك عنا واستعملنا في طاعتك وجنبنا ما يسخطك، اللهم أعنا على ذكرك وعلى شكرك وعلى حسن عبادتك، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين وأذلّ الشرك والمشركين ودمّر أعداء الدين وأهلك الزنادقة والكافرين والظالمين المعتدين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين في الشام وعن كل بلاد المسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم مَنْ أرادنا وأراد أمننا وإيماننا وعلماءنا وولاة أمرنا وشبابنا ونساءنا بسوءٍ فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره يا قوي يا عزيز، اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا واستقرارنا وارزقنا شكر نعمك علينا، اللهم آمنَّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلهم هداة مهتدين، واجعل اللهم ولايتنا فيمَنْ خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم اجمع كلمتهم على الحق وردهم إلى دينك رداً جميلاً يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك يا ربنا سميع كريم مجيب الدعوات، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
|