التواضع
خطبة جمعة بتاريخ / 22-7-1432هـ
الحمد لله الكريم الوهاب ، إليه تبارك وتعالى الرُّجعى وإليه المآب ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ؛ فإن في تقوى الله - جل وعلا- خلفاً من كلِّ شيء ، وليس من تقواه خلف .
أيّها المؤمنون عباد الله : وتقوى الله - جل وعلا - : عملٌ بطاعةِ الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله .
أيّها المؤمنون : إن من أخلاق الإسلام الفاضلة وآدابِه العليَّة الرفيعة التواضع بنوعيه للحق وللخلق ، وما زاد عبدٌ بتواضعٍ إلا رفعةً وعلوا ، ولا زاد بتكبرٍ إلا ضعة وسفولا ، وفي الحديث : ((وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ )) .
والتواضع - عباد الله - ديانةٌ وقربة يتقربُ به العبد إلى الله ؛ فالتواضع ليس خلقاً نفْعِياً وأمراً يُفعلُ لمصلحةٍ ما ، فالتواضع إنما يكون لله وتقربٌ إلى الله - عز وجل- ولذا قال العلماء : التواضع نوعان ؛ محمودٌ ومذموم ، فالمحمود ما كان لله وما تقرب به المتواضع إلى الله ، والمذموم - عباد الله - ما كان مقصوداً به المنفعة والمصلحة ؛ كأن يتواضع لذي مالٍ لماله ، أو لذي جاهٍ لجاهه ، أو لذي رئاسةٍ لرئاسته ، ونحو ذلك .
أيّها المؤمنون : والتواضع شرفٌ لصاحبه وعلوٌ له ورفعةٌ في دنياه وأخراه ، ولئن كان المتواضع يرى نفسه صغيرا فإنه عند الله وعند الناس كبير ، بخلاف المتكبر فإنه يرى نفسه كبيرا وهو في غاية الحقارة وتمام الضعةِ والصِّغر .
عباد الله : ولقد بيَّن نبينا - عليه الصلاة والسلام - حقيقة التواضع وبيَّن ضده بكلامٍ واضحٍ لا يبقى معه إشكال ولا يبقى معه لقائلٍ مقال وذلكم عندما قال - عليه الصلاة والسلام - : ((الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ )) خرَّجه مسلمٌ في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
فبيَّن - عليه الصلاة والسلام - أن المتكبر من يبطُر الحق ويغمُط الخلق ؛ فلا يقبل حقاً ولا يرعوي لهدى ويتعالى على عباد الله - جل وعلا- ويترفعُ عليهم ، وضده المتواضع وهو الذي يقبل الحق ولا يستنكف ولا يتعالى عليه ولا يستكبر ولا يرى نفسه شيئاً ولا يتعالى على عباد الله ولا يتكبرُ عليهم .
وأفاد الحديث أن التواضعَ نوعان : تواضعٌ مع الحق ، وتواضعٌ مع الخلق .
أما التواضعُ مع الحق : فبقبوله والاستكانةِ لله والخضوعِ له -جل وعلا- والذّل بين يديه وتحقيق العبودية له ، فمن كان كذلكم فهو متواضع ، ومن كان بخلاف ذلك فهو المتكبر قال الله تعالى : ) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ( [الصافات:35] ، وقال تعالى : ) وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا([النساء:172] وقال تبارك وتعالى ) إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ( [غافر:60] أي حقيرين ذليلين جزاءً وفاقا.
وأما التواضعُ - عباد الله - للخلق : فإنه يكون بعدم الاستطالةِ عليهم ، وقد روى الإمام مسلم في كتابه الصحيح عن عياض المجاشِعي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلاَ يَبْغِى أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ )) ؛ فبيَّن -عليه الصلاة والسلام- أن عدم التواضع مع عباد الله يكون بالاستطالة عليهم ، والاستطالةُ على عباد الله لها منحيان :
- إما أن يكون مستطيلاً عليهم بحق ؛ أي بصفاتٍ موجودةٍ فيه فعلا ، فإذا كان كذلك فقد افتخر .
- أو أن يستطيل على عباد الله بغير حق ؛ أي بصفاتٍ ليست موجودةً فيه ، فإنه في هذه الحال يكون قد بغى .
لا يكون من عبدٍ تجاه إخوانه المؤمنين أيُّ استطالةٍ وترفعٍ وتعالٍ - لا بحقٍ ولا بغير حق - بل يرى نفسه دوماً وأبدا في خضوعٍ وسكينة وتواضعٍ وطمأنينة وفي بُعدٍ عن العلو والترفع ، ولا يزدادُ العبد بذلك إلا علواً ورفعة ، ولا يزدادُ بضد ذلك - وهو التكبر - إلا سفولاً وانحطاطا .
أيّها المؤمنون عباد الله : ما أجمل التواضع وما أرفعه وما أعلى مقامات أهله في الدنيا والآخرة ؛ فهم الأعلون دائما شأناً وقدرا ، وهم الأعظم ثواباً وأجرا .
نسأل الله الكريم أن يهبنا جميعا الأخلاق الفاضلة والآداب الزاكية ، وأن يصلح لنا شأننا كله وأن يهدينا إليه صراطاً مستقيما .
أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيّها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ، واعلموا رعاكم الله أن هذه الأخلاق وهائب وأن الله عز وجل إذا أحب عبده وهبه منها ، وما أحوج العبد في هذا المقام وفي كل مقام إلى اللجوء إلى الوهّاب - تبارك وتعالى - ليهب له من أمره رُشْدا ، وفي الدعاء - عباد الله - ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ ، واصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ )) ، وفي التعوذ المأثور ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَهْوَاءِ )).
ثم صَلُّوا وسلِّموا - رعاكم الله - على محمّد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب:56] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد . وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ؛ أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي ، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنّا معهم بمنّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذلّ الشرك والمشركين ، ودمّر أعداء الدين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم . اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم . اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين . اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال.
اللهم آت نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى . اللهم وأصلح ذات بيننا ، وألف بين قلوبنا ، واهدنا سبل السلام ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور . اللهم وأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
اللهم فرِّج هم المهمومين ، ونفِّس كرب المكروبين ، واقض الدين عن المدينين ، واشف مرضانا ومرضى المسلمين ، وارحم موتانا وموتى المسلمين . اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا . اللهم متّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا . ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله : اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ) وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ(.
|