النعماء في الابتلاء
الحمد لله الرحيم الرحمن ، ذي الكرم والجود والفضل والإحسان ، جعل الدنيا دار ابتلاء واختبار وامتحان ، أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه ، وأشهد أن : } لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ { ، } يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، نبي الإنس والجان ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد عباد الله :
اتقوا الله U ، فالتقوى هي وصيته سبحانه لكم ولمن كان قبلكم ، يقول U من قائل : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ { فاتقوا الله ـ عباد الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
تردد على أسماعنا ، قضية ابتلاء الله U لنبيه إبراهيم وابنه إسماعيل ـ عليهما السلام ـ حيث أمر الله U نبيه إبراهيم بأن يذبح إسماعيل ، كما ذكر الله U في كتابه : } قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ { .
فالابتلاء سنة إلهية ، يغفل عنها كثير من الناس ، بل بعض الناس عهده بفقه الابتلاء ، ذبح أضحيته ، فلو سألته مثلا : عن الابتلاء ، لأجابك بنعم ، ابتلاء الله U لنبيه إبراهيم ، وكأن الابتلاء خاص بإبراهيم ، بل بعضهم يعتقد ـ لجهله ـ أن الابتلاء عقوبة من الله ، وهذا وغيره من الجهل العظيم بهذه السنة الربانية ، يقول U : } وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ { بل يقول سبحانه في سورة الروم : } أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ { يفتنون يعني يختبرون } وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ { يقول صاحب البحر المديد في تفسيره : أظنوا أن يَدَّعوا الإيمان ولا يُختبرون عليه ؛ ليظهر الصادق من الكاذب ، بل يمتحنهم الله بمشاق التكليف ؛ من مفارقة الأوطان ، ومجاهدة الأعداء ، ورفض الشهوات ، ووظائف الطاعات ، وبالفقر ، والقحط ، وأنواع المصائب في الأموال والأنفس ، وإذاية الخلق ؛ ليتميز المخلص من المنافق ، والثابت في الدين من المضطرب فيه ، ولينالوا بالصبر على ذلك عوالي الدرجات .
أيها الأخوة المؤمنون :
فالابتلاء أمر لا بد منه في هذه الحياة ، ولا يسلم منه أحد أبدا ، فالصحيح مبتلى والمريض مبتلى ، والسعيد مبتلى ، والشقي مبتلى ، والآمن مبتلى ، والخائف مبتلى ، والغني مبتلى والفقير مبتلى :
ثمانية لا بد منها على الفتى
ولا بد أن تجري عليه الثمانية
سرور وهم واجتماع وفرقة
ويسر وعسر ثم سقم وعافية
وصدق الله ـ } وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا { } وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً { يقول U عن هذه القضية التي يغفل عنها كثير من الناس : } فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ { الأولى : } ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ { والثانية : } ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ { فمن الخطأ العظيم ، أن يغفل عن قضية الابتلاء ، التي جميع الناس في دائرتها ، فالقضية ليست تكريم أو تنعيم أو إهانة ، إنما هي ابتلاء } وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {.
أيها الأخوة المؤمنون :
تأملوا قوله تعالى : } وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ { الذين اختبرهم الله بشيء من الخوف والجوع ، والنقص بالأموال والأنفس والثمرات ، ولكنهم صبروا ، لأنهم كذلك كما قال النبي r في الحديث الصحيح : ((عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ )) فالابتلاء هو من الخير لأهل الإيمان ، بل هو من النعم العظيمة من ربهم ، لأن به تكفر ذنوبهم ، وتمحى سيئاتهم ، وترفع درجاتهم ، وتعلو منازلهم يوم القيامة ، ومن خلاله يحاسبون أنفسهم ، ويعملون على تقوية صلتهم بربهم ، وكما قال r في الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه : (( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط )) . فأكمل الناس إيمانا ـ أيها الأخوة ـ أشدهم ابتلاء ، كما قال النبي r في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد وغيره (( أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلباً اشتد به بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة ))
فلنحتسب الأجر يا عباد الله ، فنحن في ابتلاء ، قد تبتلى أخي المسلم بمرض أو فقر ، قد تبتلى بجار سيئ ، قد تبتلى بابن عاق ، قد تبتلى بزوجة جاحدة لفضلك ، مهملة لواجباتك ، قد تبتلى بزميل يتتبع عثراتك ، قد تبتلى بإمام مسجد ، قد تبتلى بغير ذلك فتذكر قول النبي r : (( فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ))
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين وأن يفقهنا في هذا الدين ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا هو تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد أيها المسلمون :
لقد اقتضت حكمة الله U ، أنه اختص عباده المؤمنين ، في الغالب بنزول البلاء ، إما تعجيلا لعقوبتهم في الدنيا أو لرفع منازلهم يوم القيامة ، أما الكفرة والمنافقون فإن البلاء يصرف عنهم وتؤخر ـ والعياذ بالله ـ عقوبتهم بالآخرة ، يقول النبي r في الحديث الذي رواه الإمام مسلم : (( مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد )) .
أيها الأخوة المؤمنون :
يختلف الناس في التعامل مع الابتلاء فمنهم محروم من الخير يقابل البلاء بالتسخط وسوء الظن بالله واتهام القدر.
ومنهم: موفق يقابل البلاء بالصبر وحسن الظن بالله. ومنهم من يرضى ويقابل البلاء بالرضا والشكر وهو أفضلهم ، فيجب على المسلم المبتلى أن يتيقن أن ابتلاءه من عند الله U فيسلم الأمر له ويلتزم بشرعه ولا يخالف أمره وأن يتعاطى الأسباب النافعة لدفع البلاء ومن ذلك كثرة الدعاء ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : الدعاء سبب يدفع البلاء، فإذا كان أقوى منه دفعه، وإذا كان سبب البلاء أقوى لم يدفعه ، لكن يخففه ويضعفه .
وكذلك ، على المبتلى أن يكثر من تلاوة القرآن والصدقة وكذلك الصلاة : فقد كان رسول الله r إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .
أيها الأخوة المؤمنون :
وأخيرا على من ابتلاه الله U ، أن يكثر من الدعاء المأثور ، الذي أشار إليه الله U بقوله : } وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ { وليحذر المبتلى ، من فعل ما يفعله بعض ضعاف الإيمان ، الذين إذا نزل البلاء بأحدهم تسخط و سب الدهر , ولام خالقه في أفعاله وغابت عنه حكمة الله في قدره ، واغتر بحسن فعله فوقع في بلاء شر مما نزل به وارتكب جرماً عظيماً .
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ، اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أصلح أحوال المسلمين ، اللهم أصلح أحوال المسلمين ، اللهم احقن دماءهم وآمنهم في أوطانهم ، وأرغد عيشهم ، واجمعهم على الحق والهدى يارب العالمين. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين ، اللهم انصر المستضعفين من المسلمين، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كل مكان يارب العالمين ، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت ، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً سحًّا غدقًا طبقًا مجللا نافعًا عامًّا غير ضار ياحي ياقيوم ياذا الجلال والإكرام ، اللهم تسقي به العباد وتحيي به البلاد وتجعله بلاغاً للحاضر والباد.
اللهم سقيا رحمة ، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق ياحي ياقيوم ياذا الجلال والإكرام. ياحي يا قيوم ياذا الجلال والإكرام. ياحي ياقيوم ياذا الجلال والإكرام.
اللهم } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|