أكل المال بالباطل
الحمد لله الكبير المتعال ، المطلع على عمل كل محتال ، الذي إذا أراد : } بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ { ، أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه ، } يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ { .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له :
عليم فلا يخفى عليه من الورى
ولو غاب في شبر من الأرض خردل
سميع فلا صوت خفيٌّ يفوته
وإن دقّ جدا واختفى ليس يشكل
له ترفع الأعمال في كل لحظة
بأيدي كرام كاتبين وتحمل
عليه اعتمادي واتّكالي ورغبتي
وإصلاح شأني مجمل ومفصل
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، أنقذ الله به أمة من ضلال ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، أيها الأخوة المؤمنون :
اتقوا الله U : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ { واعلموا ـ يا عباد الله ـ بأن أكل المال بالباطل ، ذنب عظيم ، وجريمة خطيرة ، تهدد الفرد والمجتمع ، بل والأمة ، ولا أدل على ذلك من تحذير الله U ، يقول سبحانه من قائل : } وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ { معنى الآية باختصار ، أي لا يأكل بعضكم مال بعض بسبب باطل ، فأكل المال بالباطل ، من الأمور المحرمة ، التي لا تجوز شرعا ، بل ـ أيها الأخوة ـ حرمة أكل مال المسلم بالباطل ، كحرمة سفك دمه وهتك عرضة ، ففي الحديث الصحيح يقول النبي r : ((فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا فِى بَلَدِكُمْ هَذَا فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ )) فالقضية خطيرة ـ أيها الأخوة ـ الذي يأكل مال غيره باطلا يعتبر مخالفا لأمر الله U ، مرتكبا لمعصيته سبحانه ، حتى لو كان أكل المال بحكم قاض من القضاة ، وهذا معنى قوله تعالى : } وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ { يقول ابن سعدي ـ رحمه الله في تفسيره ـ : حكم الحاكم ، لا يبيح محرما ، ولا يحلل حراما ، إنما يحكم على نحو مما يسمع ، وإلا فحقائق الأمور باقية ، فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة ، ولا شبهة ، ولا استراحة
أيها الأخوة المؤمنون :
إن هذه القضية الخطيرة ، والجريمة الكبيرة ، انتشرت في المجتمع انتشار النار في الهشيم ، صارت أموال الناس تؤكل بالباطل ، ليس عن طريق المحاكم ، إنما عن طريق الكذب والمكر والاحتيال ، وعن طريق النصب والسلب والسرقة ، وعن طريق الغش والخديعة والتزوير ، صدق على بعضهم قول النبي r في حديث أبي هريرة الذي ذكره ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري : (( لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِى الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ ، مِنْ حَلالٍ أَوْ مِنْ حَرَامٍ )) .
أيها الأخوة :
إن أكل أموال الناس بالباطل ، صار فنا وشطارة عند كثير من الذين لا يخافون الله ، فاحتكار بعض التجار والوكالات وبعض المتعهدين ، واستغلال البنوك لحاجة الناس ، واحتيال شركات الاتصالات ، وأساليب كثير من القنوات ، وطرق المتسولين ومدعي النكبات والمصائب والأزمات ، بل حتى صغار الباعة ، الذين لا يملك أحدهم إلا القليل من الفاكهة والخضروات ، صار أكل مال غيرهم بالباطل هدفا منشودا ، ورغبة جامحة ، وكل على حسب مهارته وشطارته ، والنتيجة ظاهرة بينة ، لا تخفى على لبيب عاقل .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن أكل مال الناس بالباطل ، صار مواد دراسية ، ومناهج دورات تدريبية ، عند بعض المؤسسات ، يختارون له من يتقنه ، ويندبون له من يجيده ، استخدموا النساء ليهاتفن الرجال ، وأثاروا القبلية للتصويت ، ووضعوا كافة التسهيلات ، والغاية تبرر الوسيلة عند أكثرهم ، حتى لهفوا ما في جيوب المسلمين ، وأركبوهم الديون ، وأوقعوهم بالخسارات ، وقاسموهم معيشة أطفالهم ، فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واحذروا وحذروا هذه الجريمة النكراء ، والفتنة الدهماء ، والسحت الكبير ، فكل لحم نبت من سحت فالنار أولى به كما قال النبي r في الحديث الذي رواه الترمذي : (( إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتْ النَّارُ أَوْلَى به )) ولما سأل ـ صلوات ربي وسلامه عليه ، عن أكثر ما يدخل الناس النار قال : (( الْفَمُ ، وَالْفَرْجُ )) فالفم : إذا قال هجراً ، أو كتم حقاً ، أو أكل سحتاً .
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين إنه سميع مجيب ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا هو تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد أيها المسلمون :
إن مال المسلم لا يجوز أكله إلا بطيب خاطر منه ، وظلمه وغبنه وقهره ، مما يخل بأمنه وأمن مجتمعه ، ولهذا جعل الله عقوبة من خالف ذلك ، واكل مال غيره بالباطل من أعظم العقوبات :
فالذي يأكل مال غيره بغير حق مشروع لا يستجاب دعاؤه ، لو دعا الله الليل والنهار ، فصلته مقطوعة مع خالقه سبحانه ، ففي الحديث الذي رواه الإمام مسلم ، يقول r : (( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ، فَقَالَ :} يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ { ، وَقَالَ : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ { ، ثُمَّ ذَكَرَ – يعني رسول الله e - الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ )) .
أيها الأخوة المؤمنون :
وأكل أموال الغير بالباطل ؛ من الظلم المعرض لدعوة مستجابة ، فعن سعيد بن زيد أن امرأة خاصمته في بعض داره فقال : دعوها ، اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واجعل قبرها في دارها . قال الراوي فرأيتها عمياء تلتمس الجدر تقول أصابتني دعوة سعيد بن زيد فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار فوقعت فيها فكانت قبرها.
فمن أكل مال أخيه بالحرام فقد تعرَّض لدعوة المظلوم ، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب ، يقول الله U لها كما في الحديث الذي رواه الإمام احمد : (( وعزتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعد حين ))
وكذلك ـ أيها الأخوة ـ أكل مال الغير بالباطل يعرض لغضب الله U ، يقول تبارك وتعالى : } كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي{ ومن أكل حراماً فقد طغى ، ومن طغى فقد عرَّض نفسه لغضب الله ، وإذا غضب الله على عبد فالهلاك أقرب إليه من نفسه التي بين جنبيه
أيها الأخوة المؤمنون :
وأيضا أكل مال الناس بالباطل من أسباب عذاب القبر ـ نسأل الله العافية .
أُصيب غلام لرسول الله e بسهم يهودي ، قال الناس : هنئاً له الشهادة . فقال e : (( بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا )) فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ r بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ ، فَقَالَ : هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : (( شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ )) .
فلنحذر يا عباد الله ، وليطب كل واحد منا مطعمه ، ولا يأخذ شيئا من أخيه إلا عن طيب نفس وخاطر منه ، ففي الحديث الذي رواه الإمام مسلم ، يقول الرسول r : (( مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ )) ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : (( وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ )) يعني حتى لو كان عود مسواك.
وفي حديث آخر رواه البخاري ـ رحمه الله ـ يقول النَّبِيَّ r : (( إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَة )) . قال ابن حجر : يتصرفون في مال المسلمين بالباطل .
نسأله سبحانه أن يمن علينا بفضله ، وأن يجعل رزقنا حلالا طيبا ، ويكفينا بحلاله عن حرامه ، ويغنينا بفضله عمن سواه إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء واحشرنا في زمرة الأتقياء يارب العالمين . اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار .
اللهم أصلح أحوال المسلمين ، اللهم أصلح أحوال المسلمين ، اللهم احقن دماءهم وآمنهم في أوطانهم ، وأرغد عيشهم ، واجمعهم على الحق والهدى يارب العالمين. } رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ { .
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت ، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً سحًّا غدقًا طبقًا مجللا نافعًا عامًّا غير ضار ياحي ياقيوم ياذا الجلال والإكرام ، اللهم تسقي به العباد وتحيي به البلاد وتجعله بلاغاً للحاضر والباد ، برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {
فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون . |