وقفة محاسبة
الحمد لله الكريم الجواد ، المتفرد بالخلق والإيجاد ، المتوحد في تدبير أمور العباد ، من يهدي ماله من مضل ، ومن يضلل ماله من هاد .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه ، وأشهد أن لا إله إلا هو ، تعالى عن الأضداد والأنداد ، القائل في كتابه : } لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد عباد الله :
اتقوا الله U فهو القائل : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ { جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
تحدثنا في الجمعة الماضية عن أكل المال بالباطل ، واشرنا إلى خطورة هذه المعصية العظيمة ، وأن من بلي بها فإنه على خطر عظيم ، وذكرنا الأدلة بأنه ـ والعياذ بالله ـ مقطوع الصلة بربه فلا يستجاب له دعاء ، وأعظم من ذلك غضب الجبار ثم النار و بئس القرار .
فحري بنا ـ أيها الأخوة ـ محاسبة أنفسنا ، وخاصة ونحن في هذه الأيام نعيش بداية عام هجري جديد ، يحسب من أعمارنا ، وتحصى من خلاله أعمالنا ، ونقرب فيه من آجالنا ، وكما قال ـ تبارك وتعالى : } وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا { يقول ابن سعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره لهذه الآية : أي لمن أراد أن يتذكر بهما ويعتبر ويستدل بهما على كثير من المطالب الإلهية ويشكر الله على ذلك .
أيها الأخوة :
الذي يريد الله والدار الآخرة ، يحاسب نفسه في كل لحظة ، وعن كل صغيرة وكبيرة ، ففِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ ، فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ : تَدْرِي مِمَّ هَذَا ؟ قَالَ : وَمَا هُوَ ؟ قَالَ : كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ ، فَلَقِيَنِي ، فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ . وفي رواية لأبي نُعيم في الحلية وأحمد في الزهد : قيل له يرحمك الله كلُّ هذا من أجل هذه اللقمة ؟ قال : لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها ، سمعت رسول الله r يقول: (( كلُّ جسد نبت من سُحْتٍ فالنارُ أولى به )) فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن واقعنا يستدعي أن نقف مع أنفسنا ، وقفة محاسبة جادة ، وكما قال أبو بكر t : من مقت نفسه في ذات الله ، آمنه الله مقته ، وكما قال عمر بن الخطاب t : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزينوا للعرض الأكبر، } يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ { ويقول ميمون بن مهران : لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه ، حتى يعلم من أين مطعمه ، ومن أين مشربه ، ومن أين ملبسه ، أمِن حلال ذلك أم حرام ، وكما ترون ـ أيها الأخوة ـ ولعل أقرب دليل على تقصيرنا ، تأخر المطر ، فهاهي البلاد تشتكي الجدب والقحط ، وقد جف الضرع وهلك الزرع ، ونستسقي ولكن لا نرى استجابة ، فلنكن صرحاء مع أنفسنا ، } وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ { فنحن سبب ما حل بنا ، وما تأخر المطر إلا بسبب ذنوبنا ، روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت : شكى الناس إلى رسول الله r قحوط المطر، فخرج بهم إلى المصلى يوماً فكبر وحمد الله ثم قال : (( إنكم شكوتم جدب دياركم ، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم ، وقد أمركم الله U أن تدعوه ، ووعدكم أن يستجيب لكم )) ثم رفع يديه وتضرع ودعا ؛ فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت ، ثم أمطرت بإذن الله ، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول فلما رأى سرعتهم إلى الكِنّ ضحك r حتى بدت نواجذه فقال : (( أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله )) .
وتأخر المطر زمن الخليفة الناصر بالأندلس، فأمر القاضيَ منذرَ بن سعيد أن يصلي بالناس الإستسقاء، فصام أياماً وتأهب ، واجتمع الخلق في المصلى، وصعد الناصر في أعلى قصره ليشاهد الجمع ، فأبطأ منذر بن سعيد ، ثم خرج راجلاً متخشعاً ؛ وقام ليخطب فلما رأى الحال بكى ونشج ، وافتتح خطبته بأن قال : سلام عليكم.. ثم سكت!
ولم يكن من عادته ، فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما اعتراه ، ثم أتم فقال : سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ، استغفروا ربكم وتوبوا إليه ، وتقربوا بالأعمال الصالحة لديه ، فضج الناس بالبكاء ، وجأروا بالتضرع والدعاء ، وخطب فأبلغ ، فلم ينفض القوم حتى نزل غيث عظيم.
فما بالنا ـ أيها الأخوة ـ نستسقي فلا نسقى ، ونستغيث فلا نغاث ، هل نقصت خزائن الله أو نفد ما عنده ! لا والله ولكنها الذنوب والمعاصي ، فكم من أناس قد منعوا زكاة أموالهم ، أو تحايلوا على إخراجها ، والنبي r يقول في الحديث الذي رواه الحاكم )) :وما منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر )) . وفي رواية للطبراني : (( إلا ابتلاهم الله بالسنين )) . وكم من أناس قد طففوا الكيل والوزن ، وفي الحديث : (( ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان )) وكم من قلوب ملأها الغل والحسد ، ومن نفوس غلب عليها الكبر والعجب ، ويا لله كم نفوس قد ظلمت غيرها ، فأخذت حقوق العباد ، وتعدت عليهم باليد واللسان ، فكم من إنسان يتقلب على فراشه يشكو إلى الله ظلم الظالمين ، فحالنا بعد الاستسقاء كحالنا قبله أو أردأ إلا من رحم الله ، حتى إن البهائم لتدعو على بني آدم إذا تأخر المطر وتقول : منعنا المطر بسبب ذنوب بني آدم! فهل من تائب عباد الله؟!
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا هو تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد أيها المسلمون :
ونحن نتحدث عن خطورة أكل الحرام ، ونحث على محاسبة النفس بمناسبة ابتداء العام ، ونوصي بتغيير الحال ونحن ننتظر المطر من المغيث ، يجدر بنا أن نحذر من أمر خطير ، وجريمة نكراء ، وكبيرة من كبائر الذنوب ، بليت الأمة بها ، وتفنن بعض الناس بارتكابها ، حتى صارت خافية ، وعلى مستوى كبير ، ألا وهي الرشوة ـ يا عباد الله ـ التي ما فشت في مجتمع إلا أفسدته ، ولا وجدت في أمة إلا أهلكتها ، فبها تضاع الحقوق ، وتتعطل المصالح ، وتؤكل الأموال بالباطل ، وتخان فيها الأمانات ، ولا يتصف بها ولا يستسيغها إلا ضعاف الإيمان ، عباد الدرهم والدينار ، وقد ذم الله اليهود وشنع عليهم لاتصافهم بهذه الصفة ، فقال تعالى : } أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ، سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ { قال ابن مسعود t السحت هو الرشوة .
أيها الأخوة المؤمنون :
فالرشوة أمرها خطير ، وهي أشد أنواع أكل الأموال بالباطل كما ذكر سماحة الشيخ بن باز ـ رحمه الله ـ لأنها دفع المال إلى الغير لقصد إحالته عن الحق. وقد شمل التحريم في الرشوة أركانها الثلاثة ، وهم : الراشي والمرتشي والرائش : وهو الوسيط بينهما ، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه : (( لعن الراشي والمرتشي والرائش)) رواه أحمد والطبراني من حديث ثوبان رضي الله عنه.
واللعن : هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله ، نعوذ بالله من ذلك ، وهو لا يكون إلا في كبيرة .
فاتقوا الله عباد الله ، وحاسبوا أنفسكم ، وتجنبوا أسباب غضب ربكم ، فأنتم والله في حاجته ، ولا غنى لكم عن فضله ففي الحديث الذي رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : تليت عند رسول الله r هذه الآية : } يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا { ، فقام سعد بن أبي وقاص فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة ، فقال النبي r : (( يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ، والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يقبل الله منه عملاً أربعين يوماً ، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به )).
اسأل الله لي ولكم علما نافعا ، وعملا خالصا ، وسلامة دائمة ، إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء واحشرنا في زمرة الأتقياء يارب العالمين . اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار .
اللهم أصلح أحوال المسلمين ، اللهم أصلح أحوال المسلمين ، اللهم احقن دماءهم وآمنهم في أوطانهم ، وأرغد عيشهم ، واجمعهم على الحق والهدى يارب العالمين. } رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ { .
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت ، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً سحًّا غدقًا طبقًا مجللا نافعًا عامًّا غير ضار ياحي ياقيوم ياذا الجلال والإكرام ، اللهم تسقي به العباد وتحيي به البلاد وتجعله بلاغاً للحاضر والباد ، برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله : } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون . |