الحادية للآخرة
الحمد لله الملك الأعلى الكبير ، الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، السميع البصير ، الخافض الرافع ، المعطي المانع ، المعز المذل القدير .
سبحانه من إله ، أحاط علمه بالجليل والحقير : } أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ { .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وبعظيم سلطانه ، وأشهد أن لا إله إلا هو ، وحده لا شريك له ولا ضد ولا ند ولا ظهير .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، البشير النذير ، والسراج المنير ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد عباد الله :
اتقوا الله U ، بفعل أوامره ، والبعد عما نهاكم عنه ، فالتقوى هي وصية الله لكم ولمن كان قبلكم ، يقول سبحانه : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ { فاتقوا الله ـ عباد الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن مما يتميز به المؤمن ، الذي يريد الله والدار الآخرة ، حرصه على كل أمر يقربه إلى الله تعالى ، ومبادرته إلى ما ينال به رضا ربه U ، وسعيه إلى ما يثقل موازين أعماله الصالحة يوم القيامة ، فلا يدع فرصة تقربه إلى الله إلا وانتهزها ، ولا مناسبة طاعة إلا استغلها ، يدفعه إلى ذلك إيمانه ، وتحثه على ذلك رغبته بمغفرة ربه ، وجنة عرضها السموات والأرض ، كما قال تعالى : } وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ { فأهل الإيمان ـ أيها الأخوة ـ ليسوا كغيرهم ، لتميز مقاصدهم ، ونبل أهدافهم ، فإذا حرص الناس على دراهمهم ودنانيرهم ، وتسابق أهل الدنيا إلى دنياهم ، فإنهم يصبون حرصهم على أعمالهم الصالحة ، ويتسابقون إلى ميدان حسناتهم ، روى الإمام مسلم في صحيحه و أحمد في مسنده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ في سَبْعَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا رَهِقُوهُ ـ أي غشيه المشركون و قرُبوا منه ـ قَالَ : (( مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رفيقي في الْجَنَّةِ )) . فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضاً فَقَالَ : (( مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رفيقي في الْجَنَّةِ )) . فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ .
نعم ـ أحبتي في الله ـ أهل الإيمان يتنافسون ، ويتسابقون ، ويقدمون على ما يقربهم إلى ربهم ، أشد وأكثر من تنافس أهل الدنيا على دنياهم ، المؤمنون يبحثون عن أي فرصة تقربهم من الجنة ، أكثر وأشد من بحث عباد الدراهم عن دراهمهم ، ومن أهل المراتب عن مراتبهم وأهل المناصب عن مناصبهم ، بل ـ أيها الأخوة ـ المؤمنون الصادقون ، الذين وقر الإيمان في قلوبهم ، يجعلون لهم في كل عمل صالح سهما ، فمع الصائمين تجدهم ، وفي المساجد تجدهم ، وفي الصدقات والنفقات تجدهم ، الفقراء يعرفونهم ، والمساكين يعرفونهم ، المرضى يعرفونهم ، فهم يبحثون عن أي وسيلة تؤدي بهم إلى الجنة ، ويسلكون أي طريق يؤدي بهم إلى مرضاة ربهم ، روى الإمام مسلم في صحيحة ، عن أبي هريرة t قال : قال رسول الله r : (( من أصبح منكم اليوم صائماً ؟ )) قال أبو بكر: أنا ، قال : (( فمن تبع منكم اليوم جنازة ؟ )) قال أبو بكر: أنا ، قال : (( فمن أطعم اليوم مسكيناً ؟ )) قال أبو بكر: أنا ، قال : (( فمن عاد منكم اليوم مريضاً ؟ )) قال أبو بكر: أنا ، فقال رسول الله r : (( ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة )) .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن عمر الإنسان فرصة ، للتقرب إلى الله U بالأعمال الصالحة ، لأنه هو الموسم الحقيقي ، وهو المزرعة المنتجة ، للحسنات التي هي العملة الصعبة يوم القيامة ، وعجبا من رجل يدعي الإيمان ، ولكن تفوته فرص كثيرة ، ويفرط في مناسبات جليلة ، روى البخاري في صحيحه ، انه في عام خيبر ، قال النبي r : (( لأعطينَّ الرايةَ غداً رجلاً يحبُّ الله ورسولَه ويُحبُّه اللهُ ورسولُه، يفتح الله على يديه )) فبات الناسُ يدوكون ليلتَهم أيّهم يُعطاها ، وقال عمر : (( ما أحببتُ الإمارةَ إلاَّ يومئذ )). فلمَّا أصبحوا غدوا على رسول الله r كلُّهم يرجو أن يُعطاها ، فأعطاها علي أبن أبي طالب t .
فتأملوا ـ أيها الأخوة ـ يبحثون عن محبة الله ، ويتمنى كل واحد منهم أن يكون محبا لله والله محبا له .
نسأل الله أن يلطف بنا وأن يرحم ضعفنا ، ويجبر كسرنا ، ولا يؤاخذنا على عجزنا وتقصيرنا .
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا هو تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد أيها المسلمون :
لقد ضرب لنا سلفنا الصالح ، أروع الأمثلة ، في حب طاعة الله ، والحرص على عبادته سبحانه ، ففي مسند الإمام أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r فِى غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ فَأُصِيبَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ r قَافِلاً وَجَاءَ زَوْجُهَا وَكَانَ غَائِباً فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَنْتَهِىَ حَتَّى يُهَرِيقَ دَماً في أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ r فَخَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ النَّبِىِّ r فَنَزَل النَّبِىُّ r مَنْزِلاً فَقَالَ : (( مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا لَيْلَتَنَا هَذِهِ )) فَانْتَدَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالاَ نَحْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ (( فَكُونُوا بِفَمِ الشِّعْبِ )) . قَالَ َكَانُوا نَزَلُوا إِلَى شِعْبٍ مِنَ الْوَادِى فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلاَنِ إِلَى فَمِ الشِّعْبِ قَالَ الأَنْصَارِىُّ لِلْمُهَاجِرِىِّ أَىُّ اللَّيْلِ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ أَكْفِيَكَهُ أَوَّلَهُ أَوْ آخِرَهُ قَالَ اكْفِنِى أَوَّلَهُ . فَاضْطَجَعَ الْمُهَاجِرِىُّ فَنَامَ وَقَامَ الأَنْصَارِىُّ يُصَلِّى وَأَتَى الرَّجُلُ فَلَمَّا رَأَى شَخْصَ الرَّجُلِ عَرَفَ أَنَّهُ رَبِيئَةُ الْقَوْمِ فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ وَثَبَتَ قَائِماً ُثمَّ رَمَاهُ بِسَهْمٍ آخَرَ فَوَضَعَهُ فِيهِ فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ وَثَبَتَ قَائِماً ُثمَّ عَادَ لَهُ بِثَالِثٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ ُثمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ أَهَبَّ صَاحِبَهُ فَقَالَ جْلِسْ فَقَدْ أُوتِيتَ. فَوَثَبَ فَلَمَّا رَآهُمَا الرَّجُلُ عَرَفَ أَنْ قَدْ نَذِرُوا بِهِ فَهَرَبَ فَلَمَّا رَأَى الْمُهَاجِرِىُّ مَا بِالأَنْصَارِىِّ مِنَ الدِّمَاءِ قَالَ سَبْحَانَ اللَّهِ أَلاَ أَهْبَبْتَنِى. قَالَ كُنْتُ فِى سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا حَتَّى أُنْفِذَهَا.
فَلَمَّا تَابَعَ عَلَىَّ الرَّمْىَ رَكَعْتُ فَأُرِيتُكَ وَايْمُ اللَّهِ لَوْلاَ أَنْ أُضَيِّعَ ثَغْراً أَمَرَنِى رَسُولُ اللَّهِ r بِحِفْظِهِ لَقَطَعَ نَفْسِى قَبْلَ أَنْ أَقْطَعَهَا أَوْ أُنْفِذَهَا.
فلنتق الله ـ أيها الأخوة ـ ولنحرص على ما يقربنا منه سبحانه .
اسأل الله U أن يهدي ضال المسلمين وأن يرزقني وإياكم الفقه في الدين ، وأن يجعلني وإياكم من عباده الصالحين المخلصين ، إنه سميع مجيب . اللهم إنا نسألك نصر الإسلام وعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين ، اللهم احمي حوزة الدين ، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين ، اللهم آمنا في أوطاننا واستعمل علينا خيارنا واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين .اللهم إنا نسألك أن تحفظ لنا ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين ، اللهم وفقه لهداك ، واجعل عمله في رضاك ، اللهم انصر به دينك وكتابك وسنة نبيك ، اللهم ارزقه البطانة الصالحة ، التي تدله على الخير وتعينه عليه ، واصرف عنه بطانة السوء يا رب العالمين .
اللهم أغثنا ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا غيثا مغيثا ، هنيئا مريعا سحا غدقا عاجلا غير آجل نافعا غير ضار ، اللهم اسق عبادك وبهائمك وانشر رحمتك على بلدك الميت ، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا . اللهم } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله : } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|