الباعِثُ عَلى
الاهتِمامِ بالعِبادَةِ والاسْتِمْرارِ عَلَيْها
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ
ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ
أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ،
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً
كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها
الناس:
اتقُوا اللهَ تعالى، واعلَمُوا أَنَّ اللهَ أَمَرَ بِالْمُسارَعَةِ إلى الخَيْراتِ،
والتَسابُقِ في ذلك فَقال: ﴿فَاسْتَبِقُواْ
الْخَيْرَاتِ﴾. وقال تعالى: ﴿وَسَارِعُواْ
إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ﴾. ولَمَّا ذَكَرَ اللهُ نَعِيمَ الجَنَّةِ في سُورَةِ الْمُطَفِّفِين،
قال بعد ذلك: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ
الْمُتَنَافِسُونَ﴾.
ثُمَّ اعْلَمُوا يا عِبادَ اللهِ أَنَّ
الناسَ يَتَفاوَتُونَ في نَشَاطِهِم وعِنايَتِهِم في عِبادَةِ رَبِّهِم
والمُداوَمَةِ عَلَيها وإحْسِانِها، والإكثارِ منها. وذلِكَ على حَسَبِ ما يَقَعُ
فِي قُلُوبِهِم مِن الإيمانِ والعِلْمِ باللهِ وبِشَرْعِه. فَإِن لِذلِكَ أسباباً كَثِيرةً، هِيَ التي تَحُثُّ العَبْدَ،
وَتَبْعَثُ هِمَّتَه ونَشاطَه.
أولها: أَنْ
يَسْتَحْضِرَ العَبْدُ الحِكْمَةَ التي مِن أَجْلِها خَلَقَهُ الله، وَأَنْ
يَتَذَكَّرَ ذلك عَلَى سَبِيلِ الدَّوام، فَإِنَّ العَبْدَ إذا تَذَكَّرَ الغايَةَ
مِن وُجُودِهِ، وأَنَّها واحِدَةٌ فَقَط، هي عِبادَةُ اللهِ، حَرِصَ عَلَى إشْغالِ
وَقْتِه في تَحْقِيقِ هذهِ الغايَةِ وعَدَمِ الغَفْلَةِ عنها.
ثانِيًا:
الإخلاص، فإنَّ بَيْنَ الإخلاصِ والاجتهادِ تَلازُماً، فَكُلَّما كَمُلَ الإخلاصُ
في قلبِ العَبْدِ، كُلَّما كَمُلَ اجتهادُه وحِرْصُه، وكُلَّما نَقَصَ إخلاصُه،
نَقَصَ حِرصُه واجتِهادُه. وَقَدْ أَقْسَمَ الشيطانُ بِعِزَّةِ الله لَيُغْوِيَنَّ
بَنِي آدَمَ، واسْتَثْنَى مِنْهُم أَهْلَ الإخلاصِ، لأنَّه لا سَبِيلَ لَه
عَلَيْهِم، قالَ تعالى: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾.
الثالِثُ:
مَعْرِفَةُ قَدْرِ الثَّوابِ، فإنه يُعِينُ العَبْدَ على الصَّبْرِ على الطاعة،
ومُجاهَدَةِ النَّفْسِ على الْمُدَاوَمَةِ عليها. فالذي يُصَلِّي الفجرَ في
جَماعَة، إذا عَرَفَ أَنَّه في ذِمَّةِ اللهِ، وفي وَفْدِ الرحمنِ ذَلِكَ اليوم،
وأَنَّ الْمَلائِكَةَ تَسْتغفِرُ له، فإنه لا يَتَخَلَّفُ عَنْها، وهكذا ما
يَتَعَلَّقُ بِصِيامِ السِّتِّ مِنْ شَوَّالَ وعاشُوراءَ وعَرَفَة، إذا عَرَفَ
فَضْلَ صِيامها، تَشَجَّعَ عَلى صِيامِها. وهَكَذا مَنْ يَرَى الجَنَازَةَ، إذا
عَلِمَ أنَّ مَنْ صَلَّى عليها فإن له قيراطاً مِنَ الأَجْر، والقِيراطُ مِثْلُ
الجَبَلِ العَظِيم، فإنَّه في الغالِبِ لا يُفَرِّطُ في الأَجْر، وإذا كان مَعَها
حَتّى يُفْرَغَ مِنْ دَفْنِها، فإنَّ لَهُ قِيراطاً آخَر. وهكذا سائِرُ الأعمال، فإِن
لِمَعْرِفَةِ قَدْرِ الثَّوابِ فِيها أثراً على العَامِل.
الرابع:
تَذَكُّرُ لِقَاءِ اللهِ، وتَذَكُّرُ يومَ القيامةِ وما فِيهِ مِن الأهْوالِ، كما
في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ
وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ
يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.
وقوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن
تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ
وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ
اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا
تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾. فَذَكَرَ اللهُ أَنَّ
الحامِلَ لَهُم عَلَى الْمُحافَظَةِ على الصلاةِ مَعَ الجَماعَةِ هو يَقِينُهُم
بِالبَعِثِ ولقاءِ اللهِ.
الخامس: أن
يَتَذَكَّرَ العبدُ بأن الحسناتِ يُذْهِبْنَ السيِّئات، وأن الوَزْنَ يَوْمَ
القِيامةِ يَكونُ بالحسناتِ والسيئاتِ، لا بِالأمْوالِ والمَناصِبِ والأَنْسابِ.
فَمَن رَجَحَت حسناتُه على سيئاتِه فاز بالعِيشَة الراضِيَة. وهذا مِن أَكْبَرِ ما
يَحُثُّ العَبْدَ على الإكثارِ مِن الحسنات.
السادس:
الخوفُ مِنْ عَدَمِ القَبُول، فإن في ذلك مدعاةً لِلْجِدِّ والاجتِهادِ، بِعَكْسِ
الاغْتِرَارِ فإنه مِنْ أسبابِ الفُتُورِ أو تَركِ العَمَل، وهُوَ أشَدُّ مِنْ
فِعْلِ الْمَعاصِي والعياذُ بِالله، وقَدْ مَدَحَ اللهُ الذين يَعْمَلُونَ
ويَخَافُونَ مِن عَدَمِ القَبُول، وَبَيَّنَ أَنَّهُم أَهْلُ الْمُسَارَعَةِ إلى
الخَيْراتِ فقال: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا
وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ
يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾. فَسَّرَ النبيُّ
صلى الله عليه وسلم ذلك بِأَنَّهُم: (الذين
يُصَلُّونَ ويَصُومُونَ ويَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخافُونَ أَنْ لا يُقْبَلَ
مِنْهُم ).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ للهِ ربِّ
العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين،
وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ
مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عبادَ
الله: ومِن الأسبابِ التي تَحُثُّ العَبْدَ على الاِهتِمامِ بالعِبادةِ:
الحِرصُ على الفَوْزِ بِمَحبةِ اللهِ، وَنَيْلِ شَرَفِ استِجابَةِ الدعاء. فإن
العَبْدَ إذا عَلِمَ بأن الإكثارَ مِن العِبادةِ سَبَبٌ لِلْفَوزِ بِمحبةِ اللهِ
لَه، وقَبُولِ دُعائِه، جَدَّ وَاجْتَهَدَ وَصَبَرَ وصابَرَ على ذلك، قال رسولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيما يَرْوِيهِ عَن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في الحديثِ
القُدْسِيِّ: (وَمَا تَقَرَّبَ إِليَّ عبدِي
بِأَحَبَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَليْه، ولا يَزالُ عَبْدِي يتقربُ إلي بالنوافِلِ
حَتَّى أُحِبَّه، فإذا أَحْبَبْتُه كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ بِه وبَصَرَه
الذي يُبْصِرُ بِه ويَدَهُ التي يَبْطِشُ بِها ورِجْلَهُ التي يَمْشِي بها،
وَلَئِنْ سأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّه, وَلَئِنْ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّه).
ومِن ذلِك أيضاً:
أن يَتَذَكَّرَ العبدُ بِأَنَّ الإيمانَ يزيدُ بالطاعةِ، ويَنْقُصُ بِالْمَعصِية.
وهذا مِن الأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيها عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّة.
وَغَيرُ ذلك مِن
الأسبابِ الكَثِيرةِ التي ذَكَرَها أهلُ العِلم: كَتَعظِيمِ اللهِ، وتعظيمِ
شَعائِرِه، وتَعظيمِ الآخِرةِ وتَذَكُّرِ هَوَانِ الدنيا، فإن مَنْ عَظَّمَ الدنيا
لَمْ يُفَوِّت فُرْصَةً لِلتَّزَوُّدِ مِنها، وهكذا مَنْ عَظَّمَ الآخِرة.
اللهم
آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن
عبادتك، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال
والإكرام، اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم إنا نسألك
الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل،
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين
ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين،
اللهم أنزل على المسلمين رحمةً عامة وهداية عامةً يا ذا الجلال والإكرام، اللهم
أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحم حوزةَ الدين، وانصر عبادك
المؤمنين في كل مكان، اللهم وفقّ وُلاة أمرنا لما يرضيك اللهم وفّقهم بتوفيقك
وأيّدهم بتأييدك واجعلهم من أنصار دينك، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم
حبّب إليهم الخير وأهله وبغّض إليهم الشر وأهله يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر
للمسلمين والْمسلمات والْمؤمنين والْمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب
مجيب الدعوات ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾
.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|