ثَوابُ
الْمُجاهَدَةِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد
اللهِ: اتقُوا اللهَ تعالَى، وجاهِدُوا أَنْفُسَكُم في ذاتِهِ، واعْلَمُوا أَنَّ
الجنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَكارِهِ، والنارَ حُفَّتْ بِالشَّهَواتِ. قال تعالى: ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا
وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )، وَقال رسولُ اللهِ صلى اللهُ
عليه وسلم: ( الْمُجَاهِدُ مَنْ جاهَدَ نَفْسَه في
اللهِ ). وَمُجاهَدَةُ النَّفْسِ تَتَفاوَتُ، وَثَوَابُها عِنْدَ اللهِ
يَتَفَاوَتُ عَلَى حَسَبِ عِظَمِ العَمَلِ وَدَوَاعِيهِ، وَقُوَّةِ الصَّبْرِ والْمُصابَرَةِ
فِيهِ.
وَقَدْ دَلَّتْ الأدِلَّةُ عَلَى ذلك: فَمِنْ ذلكَ مَا يَتَعَلَّقُ
بِصَلاةِ اللَّيْلِ، فَإِنَّها نافِلَةِ الصلاةِ،
لِأَنَّها تُؤَدَّى وَقْتَ النَّوْمِ والراحَةِ والسُّكُونِ، وَلَذَّةِ الفِراشِ،
قال تعالى: ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ
الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ
جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )، وقال تعالى: ( كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ *
وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ). وَسُئِلَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ
عليه وسلم: أَيُّ الصلاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الفَرِيضَةِ؟ فقال: ( صَلَاةُ اللَّيْلِ ).
وَمِنْ ذلِك: قَوْلُ النبيِّ صلى اللهُ عليه
وسلم: ( الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ
الصَّابِرِ ). وَمَا ذاكَ إلَّا لِأَنَّ فِتْنَةَ الْمالِ شَدِيدَةٌ عَلَى
صاحِبِهِ، لما قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قال: ( إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمْ الأَقَلُّونَ يَوْمَ القِيامَةِ
)، أَيْ أَنَّ أصحابَ الغِنَى هُمْ أَقَلُّ الناسِ حَسناتٍ، لِأَنَّ الْمالَ
يُغْوِي صاحِبَه، وَيُلْهِيهِ، وَفِي الغالِبِ يُوقِعُهُ فِي الحَرامِ لِأَنَّه
لَا يَجِدُ مَا يُعِيقُهُ عَنْ تَلْبِيَةِ طَلَباتِه، فَصارَ الغَنِيُّ التَّقِيُّ
الْمُتَواضِعُ الذي يَلْزَمُ حُدُودَ اللهِ مَهْمَا رَأَى مِنْ الْمُغْرِياتِ،
وَيَتَحَرَّى الكَسْبَ الحَلَالَ، وَيُؤَدِّي زكاةَ مالِهِ، وَيُغِيثُ الْمَلْهُوفَ،
وَيَتَفَقَّدُ أَحْوالَ الضُّعَفَاءِ، وَيَتَقَرَّبُ إلى اللهِ بِمالِهِ وَجَاهِهِ،
أعْظَمَ أَجْرًا مِنْ غَيْرِهِ. قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلم: ( نِعْمَ الْمالُ الصالِحُ لِلرَّجُلِ الصالِحِ ).
وَمِنْ ذلك: ما رواه مسلمٌ عَنْ مَعْقِلِ
بْنِ يَسارٍ رضيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( العِبَادَةُ فِي الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ )،
ولِلطَّبَرانِي: ( عِبَادَةٌ فِي الهَرْجِ
والفِتْنَةِ كَهِجْرَةٍ إلَيَّ ) لِأَنَّ الناسَ في الفُرْقَةِ
والاخْتِلافِ والفِتَنِ يَنْساقُونَ وَراءَهَا وَيَغْفَلُونَ عَن العِبادَةِ،
وَتَنْشَغِلُ قُلُوبُهُمْ وَأَبْدانُهُمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ عَنْ الذِّكْرِ
والتِّلَاوَةِ، والصِّيامِ والقِيامِ والصدَقَةِ والدَّعْوَةِ، والأَمْرِ
بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَصارَ ثَوْابُ العِبادَةِ فِي
الفِتَنِ أَعْظَمَ مِنْ ثَوابِها وَقْتَ السَّلامَةِ والأَمْنِ والطُّمَأْنِينَةِ،
وَإِقْبَالِ الناسِ عَلَى اللهِ.
ومن ذلك: عُقُوبَةُ الزَّانِي،
فَإِنَّها تَتَفاوَتُ عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الدَّاعِي، فَالبِكْرُ يُجْلَدُ
وَيُغَرَّبُ عامًا، وَالْمُحْصَنُ يُرْجَمُ بِالحِجارَةِ حَتَّى الْمَوْتَ، مَعَ
العِلْمِ أَنَّ الجَرِيمَةَ واحِدَةٌ، وَلَكِنْ اخْتَلَفَتْ العُقُوبَةُ، لِأَنَّ
المُحْصَنَ عِنْدَهُ مَا يُعِفُّهُ عَنْ الزِّنَا. وَهَكَذَا الشَّأْنُ فِي
الثَّوَابِ، فَإِنَّ مِن السَّبْعَةِ الذينَ يُظِلُّهُم اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ
لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: ( رَجُلٌ دَعَتْهُ
امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمالٍ )، أيْ دَعَتْهُ لِنَفْسِهَا لِيَفْجُرَ
بِهَا، وَلَكِنَّه كانَ قَوِيَّ العِفَّةِ، طاهِرَ العِرْضِ ( فَقَالَ إِنِّي أَخافُ اللهِ ) فَهُوَ رَجُلٌ ذُو
شَهْوَةٍ، والدَّعْوَةُ التي دَعَتْهُ إِلَيْها هذه الْمَرْأَةُ تُوجِبُ أَنْ
يَفْعَلَ؛ لِأَنَّها هِيَ التي طَلَبَتْهُ، والْمَكانُ خالٍ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ،
وَهِيَ جَمِيلَةٌ، وَذَاتُ مَنْصِبٍ، أَيْ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِ مِنْ الْمُخْلُوقِينَ،
وَلَكِنَّه قال إِنِّي أَخافُ اللهَ، فَهذَا الرَّجُلُ تَهَيَّأَتْ لَه جَمِيعُ
دَوَاعِي الزِّنَا، فَامْتَنَعَ خَوْفًا مِن اللهِ!!! فَصارَ ثَوَابُهُ أَعْظَمَ
مِنْ غَيْرِهِ. فَأَيْنَ الذي يَبْذُلُ الغالِي والنَّفِيسَ مِنْ أَجْلِ تَتَبُّعِ
العَوْراتِ والوُقُوعِ فِي الفَواحِشِ، وَقَدْ يُسَافِرُ إلى الخارِجِ، وَيُضَحِّي
بِوَقْتِهِ وَمالِه، وَيَتَعَرَّضُ لِلْمَخَاطِرِ مِنْ أَجْلِ ذلك نَعُوذُ
بِاللهِ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون
وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ
أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ
وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عِبادَ اللهِ: وَمِنْ الأُمُور التي تَحْتاجُ إلى مُجاهَدَةٍ،
وَثَوَابُها عَظِيمٌ: كَظْمُ الغَيْظِ مَعَ القُدْرَةِ
عَلَى العُقُوبَةِ وإنْفاذِ الغَضَبِ، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عَليه وسلم: ( مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَه،
دعاه اللهُ عَلَى رُؤُوسِ الخَلَائِقِ يَوْمَ القِيامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَه فِي
أَيِّ الحُوْرِ شاءَ ).
وَحَياةُ
الْمُسْلِمِ كُلُّها لابُدُّ يَكُونَ فِيها مُجاهِدًا في ذاتِ اللهِ، ولِذلكَ قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لَا تَزُولُ قَدَمَا
ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّه حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ:
عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاه، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاه، وَعَنْ مَالِهِ
مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَه وَفِيمَا أَنْفَقَه، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ
).
فَاتَّقُوا
اللهَ عِبادَ اللهِ: وَحاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ، وَلَا تُلْهِيَنَّكُمْ الدنيا
وَفِتْنَتُها عَنْ الأَمْرِ الذي خُلِقْتُمْ مِنْ أَجْلِهِ، وَحاسِبُوا
أَنْفُسَكُمْ، وابْذُلُوا الأسبابَ التي يَقْوَى بِها إِيمانُكُم، وَتَصْلُحُ بِها
حالُكُمْ مَعَ اللهِ.
اللهم آتِ نُفُوسَنا تقواها، وزَكِّها أنت خَيْرُ مَنْ زَكَّاها،
أَنتَ وَليُّها وَمَوْلاها، اللهُمَّ خَلِّصْنا مِن حُقوقِ خَلقِك، وبَاركْ لَنَا
فِي الحـَلالِ مِن رِزقِك، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا
مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الّذِي هُوَ عِصْمَةُ
أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ
لَنَا آخِرَتَنَا الّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلْ الحَيَاةَ زِيَادةً
لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ،
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ
وَالْمُشْرِكِيْنَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ أصلحْ أَحوالَ
الْمُسْلِمِيْنَ، اللهُمَّ ارْفعْ البَلاءَ عَن الْمستضعفينَ مِن الْمُؤمِنين فِي
كُلِّ مَكانٍ، اللهُمَّ احِقنْ دماءَ الْمُسلِمِين يا ربَّ العَالَمِين، اللهُمَّ عَليكَ بِالكفرةِ والْمُلِحِدِين
الذَّين يَصدُّون عَن دِينِكَ وَيُقَاتِلُون عَبادَك الْمُؤمِنين، اللهُمَّ عَليكَ
بِهم فإنهمْ لا يُعجزونَكَ، اللهُمَّ زَلْزِل الأرضَ مِن تحتِ أَقَدَامِهم، اللهُمَّ
سلِّطْ عَليهم منْ يَسُومُهم سُوءَ العذابِ يا قويُّ يا متين، اللهُمَّ احفظْ
بلادَنا مِن كَيدِ الكَائِدِينَ وعُدْوانِ الْمُعتدينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمرِنا
بِتَوفِيقِك، وَأَيِّدْهُم بِتأَييدِك، وَاجْعَلْهُم مِن أَنصارِ دِينِك، وَارزقْهُم
البِطانةَ الصَّالحةَ النَّاصِحةَ يَا ذَا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغْفِرْ
لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ
مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا : http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|