طُوْلُ اَلْأَمَلِ يُعَطِّلُ اَلْعَمَلَ
الْحَمْدُ للهِ، ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، الْحَيِّ الَّذِي
لَا يَمُوتُ وَالْقَيُّومُ الَّذِي لَا يَنَامُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ الْمَلِكُ الْعَلَّامُ ،
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ سَيِّدُ الْأَنَامِ ، وَالدَّاعِي
إِلَى دَارِ السَّلَامِ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ
لَهُمْ بِإِحْسَانٍ.
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ﴿ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ ، فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ ، وَاعْلَمُوا
رَحِمَكُمُ اللهُ بِأَنَّ طُولَ الْأَمَلِ وَاسْتِبْعَادَ الْأَجَلِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ
الْبُعْدِ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَوَسِيْلَةٌ مِنْ وَسَاْئِلِ اَلْحُرْصِ عَلَىْ
اَلْدُّنْيَاْ ، وَاَلْإِعْرَاْضِ عَنْ اَلْآخِرَةِ ، وَكَمَاْ قَاْلَ تَعَاْلَىْ
: ﴿وَابْتَغِ
فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي
الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبّ الْمُفْسِدِينَ﴾ .
وَكُلُّنَا - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - نُؤْمِنُ بِهَذَا الْقُرْآنِ ، وَنُصَدِّقُ
بِأَنَّهُ كَلَامُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَمَسَّكَ
بِهِ ، وَأَنْ نَعْمَلَ بِتَوْجِيهَاتِهِ ، وَأَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُنَا لَهُ ، وَأَنْ
تَتَأَثَّرَ بِهِ ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - فِي قَرَارَةِ
نَفْسِهِ يَعْتَرِفُ بِهَذَا ، بَلْ بَعْضُنَا
يَعْتَرِفُ بِتَقْصِيرِهِ ، وَعِنْدَهُ هِمَّةٌ بِأَنْ يَتَدَارَكَ هَذَا التَّقْصِيرَ
، وَلَكِنَّهُ بِسَبَبِ طُولِ أَمَلِهِ يَتَأَخَّرُ وَلَا يُبَادِرُ . فَطُولُ الْأَمَلِ
- أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - فَتَكَ بِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ، وَجَعَلَهُمْ يُهْمِلُونَ
حَسَنَاتِهِمْ وَلَا يُبَالُونَ بِسَيِّئَاتِهِمْ ، بَلْ جَعَلَهُمْ يَتَعَلَّقُونَ
بِهَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ ، وَيَغْفُلُونَ أَوْ يُعْرِضُونَ عَنِ
الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ ، وَقَدْ تَوَعَّدَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ
فَقَالَ : ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا
وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ ، أَيْ : اتْرُكْهُمْ عَلَى
مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ إِعْرَاضٍ عَنِ الْحَقِّ ، وَإِقَامَةٍ عَلَى الْبَاطِلِ ،
اتْرُكْهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنِ انْشِغَالٍ بِالْأَكْلِ وَالتَّمَتُّعِ ،
اتْرُكْهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ إِلْهَاءِ الْأَمَلِ لَهُمْ ، فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ ، وَسُوءَ صَنِيعِهِمْ .
فَطُولُ الْأَمَلِ ظَاهِرَةٌ سَيِّئَةٌ خَطِيرَةٌ ، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَذِّرُ مِنْهَا وَيَأْمُرُ بِخِلَافِهَا . نَعَمْ
- أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحُثُّ أَصْحَابَهُ
عَلَى قِصَرِ الْأَمَلِ ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُمَا : أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِمَنْكِبي ، فَقَالَ
: (( كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ كَعَابِرِ
سَبِيلٍ )) . أَيْ : لَا تَرْكَنْ إِلَى هَذِهِ الدُّنْيَا ، وَلَا تُحَدِّثْ
نَفْسَكَ بِطُولِ الْبَقَاءِ فِيهَا ، وَلَا تَعْتَنِي بِهَا ، وَلَا تَتَعَلَّقْ
مِنْهَا إِلَّا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَرِيبُ فِي غَيْرِ مَوْطِنِهِ .
أَتَدْرُونَ - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - مَاذَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ بَعْدَ هَذِهِ
النَّصِيحَةِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ عَمِلَ بِهَا رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ ، وَكَانَ يَحُثُّ النَّاسَ عَلَى قِصَرِ الْأَمَلِ ، وَيَقُولُ لِأَحَدِهِمْ:
إِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ
الصَّبَاحَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ .
هَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَهَذِهِ سِمَاتُ عِبَادِ الرَّحْمَنِ ، يَزْهَدُونَ
فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَيَعْتَبِرُونَهَا دَارَ غُرْبَةٍ بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ ،
أَمَّا وَالْعِيَاذُ بِاللهِ غَيْرُهُمْ؛ ضِعَافُ الْإِيمَانِ عُبَّادُ الدُّنْيَا،
عُشَّاقُ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ فَهُمْ كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا
تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ﴾ .
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ،
وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ،
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ،
فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى
تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ
وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( لَا يَزَالُ
قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ: فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَطُولِ الْأَمَلِ
)) ، فَطُولُ الْأَمَلِ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ
أَنْ لَا يَدْفَعَهُ طُولُ أَمَلِهِ إِلَى التَّعَلُّقِ بِهَذِهِ الدُّنْيَا وَنِسْيَانِ
الْآخِرَةِ ، وَأَنْ لَا يَجْعَلَهُ يَعْمَلُ لِمَا هُوَ زَائِلٌ فَانٍ، وَيَتْرُكُ
مَا هُوَ بَاقٍ خَالِدٌ ، فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَّ خُطُوطًا فَقَالَ: (( هَذَا الْإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ
كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ الْخَطُّ الْأَقْرَبُ )) ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ يَقُولُ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( مَا حَقُّ امْرِئٍ
مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ
عِنْدَهُ )) . أَسْأَلُ
اللهَ لِي وَلَكُمْ عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلًا خَالِصًا ، وَسَلَامَةً دَائِمَةً
إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ .
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ وَأَنْتَ فِي عَلْيَائِكَ ، أَنْ تَهْدِيَ
قُلُوبَنَا ، وَأَنْ تَغْفِرَ ذُنُوبَنَا ، وَأَنْ تَسْتُرَ عُيُوبَنَا ، وَأَنْ تُعَافِيَ
مَنِ ابْتلَيْتَهُ مِنَّا . اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَمَلٍ يُلْهِينَا
، وَمِنْ غِنًى يُطْغِينَا ، وَمِنْ دُنْيَا تُشْقِينَا ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ
الرَّاحِمِينَ .
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا
مِنْ عِبَادِكَ الشَّاكِرِينَ .
اللَّهُمَّ رَبَّنَا تَقَبَّلْ تَوْبَاتِنَا ، وَاغْسِلْ حَوْبَاتِنَا
، وَأَجِبْ دَعَوَاتِنَا ، وَاهْدِ قُلُوبَنَا ، وَسَدِّدْ أَلْسِنَتَنَا ، وَثَبِّتْ
حُجَّتَنَا ، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قُلُوبِنَا .
اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ ،
وَأَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلًا وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ ، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ
الصَّالِحِينَ الْمُخْلَصِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي
الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.
عِبَادَ اللهِ :
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ
ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ . فَاذْكُرُوا اللهَ العَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ ، وَاشْكُرُوهُ
عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ
مَا تَصْنَعُونَ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120 |