وقفات
اعتبار أمام مشهد اخضرار الأرض ((الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ))، أخرج
صنوف النبات من بذور، وأنبت الزهور، وأخرج الحب المتراكب من يخضور، أشهدُ أن لا
إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، إليه النشور، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ
ورسولُهُ، لم تغره الدنيا بل جعلها عبور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه
على مر الدهور وسلم تسليماً. أما بعد عباد الله: تزودوا بالتقوى، فإنها زاد أولي الألباب والنهى، ((وَتَزَوَّدُوا
فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)) ((وَلَدَارُ
الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ)). أيها المسلمون:
هذا الكون الفسيح، مشحون بعجائب صنع الله وبدائع خلقه، وشواهد ربوبيته، ومشاهد
قدرته. والمؤمنون الصادقون،
يعتبرون ويتفكرون في كل ما يرون في هذا الكون صنوف خلق الله، ليرسخوا بتفكرِهِم يقينَهُم
بكمال خالقهم وجلاله سبحانه. عباد الله: مشهد من مشاهد الخلق البديع، يتكرر أمام الأنظار،
في جميع الأقطار، ذكره الله في القرآن، ولفت الأنظار إليه، مرة يدعوا للتفكر فيه،
وأخرى يستدل به، وثالثة يَضْرِبُ المثل به، ورابعة وخامسة. إنه ... مشهد
اخضرار الأرض الجدباء، بعد نزول ماء السماء، قال الله جل وعلا:
((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ
خَبِيرٌ)) يُنْشِئُ اللهُ
السحابَ الثقالَ، ثم يسوقُها إلى حيثُ شاءَ من أراضيه، فيُنْزِلُ مطرها على الأرض الجدباء
الهامدة، فتهتز الأرض وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج، وتأخذ زخرفها، وتتزين بألوانٍ ومروجٍ
تسر الناظرين، وتبهج خواطرهم. أيها المسلمون: ونحن نرى هذا المشهد
في أرضنا، ينبغي علينا كمؤمنين أن نقوم أمامه معتبرين متفكرين متذكرين وفق ما
أرشدنا إليه رب العالمين. ــ فأول وقفات اعتبار المؤمنين أمام مشهد اخضرار الأرض: التفكر في بديع صنع
الله، وكمال قدرته، ولطف علمه بدقائق مخلوقاته، فالتفكر في هذا المشهد يزيد
الإيمان ويقويه، ويوصل إلى اليقين. نرى في هذا المشهد
قدرة الله، ونرى علمه، وإحاطته، وبديع صنعه، وجماله وجلاله وكماله، فنزداد إيماناً
بصفات ربنا، وأفعال ربوبيته ونرى آثارها. فتفكروا عباد الله في
اخضرار الأرض (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ
لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) تأملوا في تنوع النباتات
الربيعية، وأشكالها، وألوانها، وروائحها، وتعدد منافعها، وبديع صنع ربها الذي أحسن
كل شيء خلقه، وازدادوا تسبيحا بحمد ربكم وقدسوه باسمه العظيم، فكل شيء يُذَكِّرُ
المؤمنين بخالقهم العظيم سبحانه، لأن قلوبَهم حيةٌ حاضرة ذاكرة. تأمل في نبات الأرض
وانظر إلى آثار ما صنع المليكُ عيونٌ من لجينٍ
شاخصاتٌ بأبصارٍ هي الذهبُ السبيكُ على قُضُبِ الزَّبَرْجَد
شاهداتٌ بأن الله ليس له شريكُ ــ الوقفة الثانية
أمام مشهد اخضرار الأرض بعد جدبها: وهو ثمرة من ثمرات
التفكر: مقام الاستدلال بهذا المشهد على تفرد الله العظيم بالربوبية والخلق
والتدبير، وتفرده بالألوهية واستحقاقه للعبادة، فلا إله غيره ولا رب سواه. ولله في كل
تحريكة وتسكينة أبداً شاهد وفي كل شيء له
آية تدل
على أنه واحد ((أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم
مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ
لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَـهٌ مَّعَ اللَّـهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ
يَعْدِلُونَ)) وقال تعالى: ((وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ
تَعْلَمُونَ)) فالخالق لهذا هو المستحق للعبادة. ــ الوقفة الثالثة: الاستدلال بهذا المشهد على إثبات البعث
والنشور، وقدرة الله على إحياء الموتى وإخراجهم من القبور للجزاء والحساب. قال الله تعالى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا
أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا
لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))
((فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ
يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَهُوَ
عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) مسألة الإيمان بالبعثِ،
وقيامِ الساعة من قضايا الاعتقاد الكبرى التي دَعَى الأنبياءُ والمرسلون أقوامَهم
لليقين بها، قال الله تعالى: ((وَتَرَى الْأَرْضَ
هَامِدَةً ــ أي غبراء يابسة ــ فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ () ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ () وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ
اللَّـهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ))، ضرب الله بهذا
المشهد المثل لقدرته على إخراج الموتى: ((كَذلِكَ
نُخرِجُ المَوتى لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ)) لعلكم تتذكرون بهذا المشهد يومَكُم
الذي توعدون. وهذا التذكر يقود
لليقين بيوم البعث، والاستعداد ليوم الحساب بالباقيات الصالحات. ــ الوقفة الرابعة للمؤمنين: شهود نعمة الله في إنبات الأرض بعد
الجدب، فلقد امتن الله علينا كثيراً في القرآن بإنزال المطر وإنبات النبات. فأكثر طعامنا، وكل
طعام دوابنا، من النبات، فاسمع لقول الله: ((فَلْيَنظُرِ
الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا
الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا
وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَّتَاعًا لَّكُمْ
وَلِأَنْعَامِكُمْ)) وشهود نعمة الله بإنبات
الزروع يقود المؤمن إلى الشكر باللسان ذكراً وثناء، وبالقلب اعترافا، وبالجوارح
عملاً صالحاً. اللهم
بارك لنا فيما رزقتنا، وأوزعنا أن نشكر نعمتك علينا، اللهم اجعلنا شاكرين لنعمك،
مُثنين عليك بها، قابليها، وأتمها علينا يا رب العالمين.. وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي
وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيم. الخطبة الثانية الحمدُ
للهِ المُؤَمَّلِ توفيقُه، المتواترِ عطاؤُه وتسديدُه، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ
الله وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ الرزاق فلا ينقطع رزقُه، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحمّدًا
عَبدُهُ وَرَسُولُهُ القويمُ منهجُه، الدائمُ شكرُه، صَلّى اللهُ عَلْيِهِ وَعَلَى
آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسلّمَ تَسْلِيماً كَثِيْراً. أما بعد: ــ الوقفة الخامسة للمؤمنين أمام مشهد زينة الأرض واخضرارها:
الاعتبارُ بهذا المشهد، على سرعة زوال الدنيا، وقصر أيامها، فقد ضرب الله المثل
على ذلك به. وهذه الوقفة تثمر
للمؤمنين معرفةَ حقيقةِ الدنيا وحقارتِها، وبالتالي عدم الاغترارِ بها، وعدم
الركون إليها، وعدم الانغماس بشهواتها وملذاتها. يقول الله تعالى: ((اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ
وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ ــ الزراع ــ نَبَاتُهُ ثُمَّ
يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا)) وهكذا سرعة انقضاء
الدنيا ومتاعها. وقد عرف حقيقتها
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فتجافا عنها، وقال: مالي وللدنيا إنما أنا كراكب
استظل تحت شجرة ثم راح وتركها، وكان يقول: (كن في
الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) فعلى المؤمن أن يستعد
لآخرته لذا قال بعد ذلك: ((وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ
شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)) متاع زائل غرار قريب زواله فلا يغركم. لذا قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤكداً قصر الدنيا وقرب الآخرة: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك) فلا سواء بل ولا
مقاربة ولا مقارنة بين الدنيا والآخرة من حيث المدة واللذة والمتعة والنعيم. قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (موضع سوط في الجنة خير من الدنيا
وما فيها). واقرؤا: ((وَمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ)) [متفق
عليه دون الزيادة، فهي عند البغوي وابن جرير]. فالدنيا عند ربنا
حقيرة ولا تزن عنده جناح بعوضة، وإلا لما سقى منها كافراً شربة ماء. وضرب الله المثل للدنيا
بأحقر الأشياء وأقذرها، فعَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلَابِيِّ رضي الله
عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: (يَا ضَحَّاكُ مَا طَعَامُكَ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ،
اللَّحْمُ وَاللَّبَنُ؟ فقَالَ: ثُمَّ يَصِيرُ إِلَى مَاذَا؟ قَالَ: إِلَى مَا
قَدْ عَلِمْتَ، قَالَ: فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ضَرَبَ مَا يَخْرُجُ
مِنْ ابْنِ آدَمَ مَثَلًا لِلدُّنْيَا) ذلك، كيلا ننشغل بها عن آخرتنا،
فالدنيا حقيرة قليلة زائلة فانية والآخرة باقية. فيا عباد
الله: قوموا مقامات
الاعتبار الخمس أمام مشهد خضرة الأرض لتحيا القلوب وتزكوا النفوس: ــ مقام التفكر
والتأمل. ــ ومقام الاستدلال
به على ربوبية الله واستحقاقه للألوهية وحده. ــ ومقام الاستدلال
به على البعث والنشور، إحياء الموتى للحساب. ــ ومقام شهود نعمة
المنعم الرزاق سبحانه، وشكره على هذه النعمة. ــ ومقام الاعتبار
بالمشهد على سرعة زوال الدنيا وقلة متاعها وغرورها، وبالتالي التعلق بالآخرة
والسعيِّ لها سعي أهل الإيمان. اللهم
لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا يا أرحم الراحمين، اللهم أعنا على ذكرك
وشكرك وحسن عبادتك، اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب
والرضا، والقصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيما لاينفد وقرة عين لاتنقطع، ونسألك
الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الممات ولذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى
لقاءك في غير ضراء مضرو ولا فتنة مضلة يا أرحم الراحمين. اللهم
آمنا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ
بنواصيهم للبر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام واجزهم خيراً على ما يقدمونه لخدمة
الإسلام والمسلمين يا رب العالمين، اللهم ادفع عن بلادنا مضلات الفتن ، اللهم من
أراد بلادنا وبلاد المسلمين بسوء وفتنة فاجعل كيده في نحره يا قوي يا متين . ربنا
اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنُوا
ربنا إنك رءوف رحيم . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. ربنا اغفر
لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك
قريب مجيب الدعوات. عباد
الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما
تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة
للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121 |