الإيـمـان بالـغـيـب
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها الناس: اتقوا الله تعالى, واعلموا أن الإنسان لا يكون إنساناً على الحقيقة, إلا إذا آمن بالله ورسوله وعَمِلَ صالحا, واشتَغَلَ بالسَّبَب الذي من أجْلِهِ خَلَقَه الله, كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾, وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾. هذا هو الإنسان الحقيقي. وأما من أعرض عن ذلك, فهو في أسفل سافلين, وإن سماه الناس إنساناً, وأثنوا عليه.
ومن أعظَمِ أمورِ الإيمان: الإيمانُ بالغيب, فهو أولُ صفات المؤمنين في أولِ سورة البقرة, قال تعالى في وصف المتقين: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾. لأنه أولُ وَصْفٍ يُفَرِّقُ بين الإنسان العاقل, والإنسانِ البهيمي الذي لا يؤمن إلا بالأشياء المحسوسة المُشاهَدة. لأن الإيمان البهيمي ليس فيه ميزةٌ للإنسان تَرْفَعُ من شأنِه عند الله. فالمؤمن بالغيب يقول: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله, وآمنت برسول الله, وبما جاء عن رسول الله على مرادِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن من أعظم الإيمان بالغيب: أن يعمل المؤمن بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ويطيعَه وهو لم يره, روى الإمام أحمد عن أبي عبدالرحمن الجهني, أن رجلا قال: يا رسول الله, أرأيت من رآك فآمن بك و صدقك و اتبعك ماذا له ؟ قال : ( طوبى له ) ، ثم أقبل الآخر, قال: يا رسول الله! أرأيت من آمن بك وصدقك واتبعك ولم يرك؟ قال: ( طوبى له، ثم طوبى له، ثم طوبى له ). والسبب في ذلك أن الإيمان بالغيب شأنه عظيم, فهو شعار المؤمن, وأصلُ انقيادِه لله. بخلاف من يشترطُ على ربه أن لا يؤمن إلا بِما رأَتْهُ عَينُه وأَقَرَّه عقلُه, فهذا ليس بمؤمن وإن صلى وصام. وقد أخبر الله تعالى أن مِن عقيدة الكفار, أنهم لا يؤمنون بما أخبر الله إلا إذا رأوا بأعيُنِهِم, قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴾. وقال تعالى لِفِرعَون بَعْدَما عايَن: ﴿ آلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾.
فالمؤمنون يُؤمنون بكلِّ ما جاء في الكتاب والسنة لأنه حقٌّ وصدق. فيُؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويؤمنون بالقدر خيره وشره، ويؤمنون بما أخبر الله ورسوله عنه من الحوادث الماضية والحوادث المستقبلة؛ من أخبار الرسل والأمم الماضية، وما يحصل في آخر الزمان من علامات الساعة؛ كظهور الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام، وخروج يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة ما حصل منها وما سيحصل، ويؤمنون بما يكون في البرزخ من عذاب القبر ونعيمه، ويؤمنون بالبعث والحساب والميزان والجنة والنار، ويعملون من أجل ذلك ويستعدون له ولا يغفلون عنه.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ،
عباد الله: اعلموا أن الإيمان بالغيب هو الذي يحمل العبد على طاعة الله في السر والعلن والغيب والشهادة بخلاف المنافق الذي يجعلُ اللهَ أهونَ الناظرين إليه, قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَة وَأَجْر كَبِير ﴾, وقال تعالى: ﴿ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ﴾. وقال تعالى في المنافقين: ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾.
وكذلك الإيمان بالغيب هو الذي يجعل العبد يداوم على التوبة والإنابة ومحاسبة النفس والحرص على لقاء الله طاهراً مُطَهَّرا. ألا ترون إلى المرأة التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما زَنَت, فقالت: يا رسول الله طَهِّرني, فأعرض عنها, فلما أَيِسَت منه, قالت: والله إني حُبْلَى من الزنا. فقال: "اذهبي حتى تلدي". فلما ولدت جاءت فقالت: طَهِّرني, فقال: "اذهبي حتى تفطميه", فجاءت بعدما فطمته وبيده كسرة خبز. "فأمر بها فَشُدَّت عليها ثيابها ثم رجمت".
فيا لها من توبة عجيبة: حيث بقيت حُرْقةُ الذنب وشدةُ الخوف من عذاب الله طِيلَةَ تلك المُدّة, " مُدّةُ الحمل, ومُدّةُ الفِطام, مع وجود عاطفة الأمومة والخوف من فراق الصبي ", إِلّا أَن قوةَ إيمانِها بالغيب أَنْسَتْها كُلَّ شيء, مع العلم أنها لو لم ترجع, لم يسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنها تابت بخلاف من يذنب الذنب ثم ينساه بمجرد قوله: أستغفر الله.
فاتقوا الله عباد الله, وابذلوا أسباب صلاحِ قلوبكم وزيادةِ إيمانِكم, واعلموا أن مردكم إلى الله, فلا تغفلوا عن ذلك.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكّها أنت خير من زكّاها أنت وليّها ومولاها ، اللهم ارزقنا تقواك, واجعلنا نخشاك كأننا نراك، اللهم أصلحْ لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه، وولّ عليهم خيارهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين في كلِّ مكانٍ يُستضعف بها المسلمين، اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في كل مكان يا قوي يا عزيز، اللهم وفق وُلاة أمرنا لما يرضيك، اللهم وفقهم بتوفيقك، وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصاراً لدينك, وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم حبّب إليهم الخير وأهله وبغّض إليهم الشر وأهله وبصّرهم بأعدائهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم نزلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-119.html
|