حفظ الصيام
خطبة جمعة بتاريخ / 5-9-1432 هـ
الحمد لله رب العالمين ، أحمده تبارك وتعالى بمحامده التي هو لها أهل ، وأثني عليه الخير كله لا أحصي ثناءً عليه ، هو جل وعلا كما أثنى على نفسه ، أحمده تبارك وتعالى على نعمه الكثيرة وآلائه الوفيرة وعطاياه التي لا تعد ولا تحصى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه ومبلغ الناس شرعه الصادق الوعد الأمين ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى وراقبوه في سركم وعلانيتكم ؛ مراقبة من يعلم أن ربه يسمعه ويراه ، وتقوى الله جل وعلا هي وصية الله للأولين والآخرين من خلقه كما قال جل وعلا : ) وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ( [النساء:131] ، وهي وصية نبينا صلى الله عليه وسلم لأمته ، ووصية السلف الصالح فيما بينهم ، والتقوى شأنها عظيم ومقامها رفيع وعواقبها حميدة ، والعاقبة للمتقين دائماً وأبداً في الدنيا والآخرة .
أيها المؤمنون عباد الله : إننا نعيش نعمةً عظيمة ومنةً جليلة أن بلَّغنا ربنا جل وعلا شهر الصيام ؛ شهر الخيرات شهر العطايا والهبات ، بلغنا هذا الشهر الكريم ؛ فنسأله جل وعلا الذي أكرمنا ببلوغه أن يتمه علينا باليُمْن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما يحبه ويرضاه من الصيام والقيام وغير ذلكم من الطاعات إيماناً واحتسابا ، وأن يجعلنا فيه جميعا من عتقائه من النار إنه جل وعلا سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أيها المؤمنون : إن فريضة الصيام كتبها الله جل وعلا على أمة الإسلام كما كتب الصيام على الأمم السابقة لغايةٍ حميدة ومقصدٍ جليل لتحقيق تقوى الله جل وعلا التي هي وصيته سبحانه للأولين والآخرين من خلقه ؛ قال الله تعالى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( [البقرة:183] أي تتقون الله عز وجل بصيامكم وحفظكم لصيامكم .
والصيام - عباد الله - وُصْلَةٌ عظيمة لتحقيق تقوى الله جل وعلا ؛ فإن ما في الصيام من قمعٍ للنفس وكسرٍ للشهوات وتهذيبٍ للقلب وتزكيةٍ للنفس وسكونٍ للجوارح وغير ذلكم من المعاني التي تصحب الصيام كل ذلكم - عباد الله - روافد عظيمة لتحقيق تقوى الله جل وعلا.
أيها المؤمنون عباد الله : إن الواجب على من أكرمه الله جل وعلا بالصيام ووفقه لبلوغ هذا الشهر العظيم أن يُعنى عنايةً عظيمة بحفظ صيامه ، نعم أيها المؤمنون ! عناية عظيمة بحفظ الصيام ، لأن من الناس من يصوم عن الطعام والشراب وسائر المفطرات ولكنه لا يصوم عن الآثام والمحرمات ؛ فلا يكون بذلك موفَّقاً لحفظ الصيام ، فوجب على كل صائمٍ - عباد الله - أن يتعاهد صيامه وأن يعنى به عناية عظيمة حفظاً له من منقِصات أجره ومذهِبات ثوابه ومبطلات تحصيل خيراته وبركاته .
وفي الباب -عباد الله- أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن نرعيها اهتمامنا وأن نعنى بفهمها وتحقيقها وتطبيقها حفظاً لصيامنا :
o روى الإمام البخاري في كتابه الصحيح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ )) .
o وروى ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنْ جَهِلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ)) .
o وروى الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ )) .
o وروى البخاري في كتابه الأدب المفرد بإسنادٍ ثابت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار ، وتفعل ، وتصَّدق ، وتؤذي جيرانها بلسانها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا خير فيها ؛ هي من أهل النار )) ، قالوا : وفلانة تصلي المكتوبة وتصَّدق بأثوار – أي بشيء زهيد - ولا تؤذي أحدا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( هي من أهل الجنة )) .
o وروى الإمام مسلم في كتابه الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا ؛ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ )) .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة عباد الله ، ومن يتأمل هذه الأحاديث العظيمة ونظائرها مما ورد في هذا الباب في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يستجمع قلبُه خوفاً من أن يضيع صيامُه وأن يضيع قيامُه وأن تضيع طاعاتُه بما يكون منه من تجنِّياتٍ وتعديات وقول زورٍ وجهل وسبابٍ وشتائم وغير ذلكم من الأقوال والأعمال السيئات التي يجني عاملها بها على نفسه ويفوِّت على نفسه خيراً عظيما وأجراً عميما ؛ ولربما ذهبت أجوره كلها في صلواته وصيامه وصدقاته وغير ذلكم من طاعاته إلى من تجنَّى عليهم وتعدَّى .
أيها المؤمنون عباد الله : إن الأمر جد خطير وليس بالهيِّن ؛ فالواجب على العبد أن يتقي الله ربه وأن يحرص على أن يستفيد من مدرسة الصيام تحقيقاً لتقوى الملك العلام سبحانه وتعالى .
عباد الله : ومن يطالع حال سلفنا الصالح رضي الله عنهم وأرضاهم يطالع حالاً عجيبة في حفظهم لصيامهم وعنايتهم به وتواصيهم على حفظ الصيام ورعايته والعناية به ، والآثار في هذا الباب عنهم كثيرة :
o فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال : " إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمأثم ودع أذى الخادم ، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك ، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء " .
o وعن أبي صالح الحنفي عن أخيه طَليق بن قيس قال : " قال أبو ذر : إذا صمت فتحفَّظ ما استطعت ، فكان طليق إذا كان يوم صومه دخل فلم يخرج إلا للصلاة " .
o وعن أبي المتوكل أن أبا هريرة وأصحابه كانوا إذا صاموا جلسوا في المسجد .
o وقال عمر رضي الله عنه : " ليس الصيام من الطعام والشراب وحده ولكنه من الكذب والباطل واللغو " .
o وقال ميمون بن مِهران : " إن أهون الصيام ترك الطعام والشراب " .
o وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : " ألا إن الصيام ليس من الطعام والشراب ولكن من الكذب والباطل واللغو " .
o وعن مجاهد رحمه الله تعالى قال : " خصلتان من حفظهما سلِم له صومه : الغيبة ، والكذب ".
o وعن أبي العالية رحمه الله تعالى قال : " الصائم في عبادة ما لم يغـتب " .
وجميع هذه الآثار رواها الإمام ابنُ أبي شيبة في كتابه المصنف ، والآثار والنقول عن السلف في هذا المعنى كثيرة .
ألا فلنتق الله - عباد الله - لنتق الله جل وعلا في صيامنا ولنتعاهده بالحفظ متقين الله ربنا طالبين أجره وثوابه وعونه ومده وتوفيقه ، والتوفيق بيد الله وحده لا شريك له .
نسأله جل في علاه أن يحفظ علينا جميعاً صيامنا وقيامنا وسائر طاعاتنا وأن يوفقنا لسديد الأقوال وصالح الأعمال وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى فإن من اتقى الله وقاه وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه .
ثم عباد الله : علينا أن نغتنم المواسم الفاضلة والأوقات الكريمة خير اغتنام ، ولنحرص في لحظاتها المباركة وساعاتها الشريفة أن تكون كل لحظة منها مُرتقـًى لنا وسلَّما لنيل رضا الله تبارك وتعالى والفوز بثوابه والنجاة من عقابه ولاسيما - أيها المؤمنون عباد الله - أننا نعيش خير الشهور وأعظمها وأجلَّها وأفضلها ؛ فلنحرص - عباد الله- على اغتنام أيامه الفاضلة ولياليه المباركة في طاعة الله عز وجل والتقرب إليه بما فيه نيل رضاه ، ولنحرص - عباد الله - على البعد عن الآثام وعن كل أمرٍ يسخط الملك العلام في ليل شهر الصيام أو نهاره ، ولنراقب الله جل وعلا في أقوالنا وأعمالنا وحركاتنا وسكناتنا .
ونسأل الله جل وعلا أن يوفقنا لصيام رمضان وقيامه إيماناً واحتسابا على الوجه الذي يرضيه عنا ، وأن يعيذنا أجمعين من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء .
وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمّد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً( [الأحزاب:56] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد . وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، اللهم وعنا معهم بمنـِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمِّر أعداء الدين ، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ، ونعوذ بك اللهم من شرورهم .
اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان اللهم كن لهم حافظاً ومؤيداً ومعِينا . اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا وبأنك أنت الله لا إله إلا أنت يا منان يا بديع السماوات والأرض يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أن تحقن دماء إخواننا المسلمين في سوريا وفي ليبيا وفي كل مكان يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام . اللهم كن لنا ولإخواننا المسلمين في كل مكان حافظاً ومعِينا . اللهم أعنا وإياهم ولا تعِن علينا ، وانصرنا ولا تنصر علينا ، وامكر لنا ولا تمكر علينا ، واهدنا ويسِّر الهدى لنا ، وانصرنا على من بغى علينا .
اللهم اجعلنا لك ذاكرين ، لك شاكرين ، إليك أوّاهين منيبين ، لك مخبتين ، لك مطيعين . اللهم تقبل توبتنا ، واغسل حوبتنا ، وثبِّت حجتنا ، واهد قلوبنا ، وسدد ألسنتنا ، واسلل سخيمة صدورنا . اللهم اغفر ذنوب المذنبين وتب على التائبين ، اللهم وفرج هم المهمومين من المسلمين ونفِّس كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين واشف مرضانا ومرضى المسلمين وارحم موتانا وموتى المسلمين.
اللهم وإنا نسألك يا إلهنا يا حي يا قيوم يا غني يا قوي يا متين يا محسن يا جواد يا كريم أن تلطف بإخواننا المسلمين في الصومال ، اللهم اجبر كسرهم ، اللهم أشبِع جائعهم اللهم وارو ِعطشانهم يا حي يا قيوم ، اللهم وسدَّ حاجتهم بمنك وكرمك وفضلك وإحسانك يا جواد يا كريم يا حي يا قيوم .
اللهم وآتِ نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها أنت وليّها ومولاها .
اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك وأعِنه على طاعتك يا حي يا قيوم .
اللهم إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله : اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ) وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ( .
|