تحريم الكبر
الخطبة الأولى
الحمد لله العلي العظيم, الرحمن الرحيم, الملك القدوس, السلام المؤمن المهيمن, العزيز الجبار, المتكبر, الملك الحق, القاهر القهار, مكور النهار على الليل , والليل على النهار, له الملك, وله الحمد, وهو على كل شيء قدير.
العزُ إزاره, والكبرياء رداؤه, فمن نازعه واحداً منهما قذفه في النار.
أحمده حمداً كثيراً, وأشكره شكرَ معترفٍ بنعمه وآلائه, وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم, وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً, أما بعد:
أيها المؤمنون:
اعلموا رحمني الله وإياكم أن الكبر ذنب عظيم , وهو محرم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , لأنه يسلب الفضل ويكسب الرذيلة , ولأن المتكبر يعتقد في نفسه أنه جليل عظيم متعال عن رتبة المخلوقين , والكبر من الصفات النفسية المرذولة .
أيها المسلمون:
إن إمام المتكبرين وسلفهم هو إبليس اللعين, لأنه أول من سنَّ هذا الذنب العظيم, والخلق اللئيم.
قال تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {34}} البقرة
فغضب عليه جبار السموات والأرض, فقال له : { قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ {18}} الأعراف .
تتابع المتكبرون السائرون على درب إبليس, فجاء قوم نوح عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله, فتكبروا واستكبروا وماذا كانت النتيجة.
{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً {7}} نوح .
وتكبر قوم هود, وقوم صالح, وقوم لوط, وقوم شعيب, وفرعون, وقارون وهامان, وأبو جهل, وأبو لهب, وغيرهم كثير من الطغاة المتكبرين, فكانت عاقبتهم وبالاً وسعيهم ضلالاً .
أيها الناس:
إن الكبر يورث الذل والمهانة لصاحبه في الدنيا وفي الآخرة , أما في الدنيا فإن المتكبر على عباد الله حقير في أنفسهم من حيث لا يشعر , وما تكبر إلا من نقصٍ في رجولته , فهو يحاول سدّ هذا النقص بهذا الصنيع القبيح وهو الكبر.
وأما الآخرة فعاقبة المتكبر, هي ما رواه الإمام أحمد والترمذي عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان فيساقون إلى سجنٍ في جهنم يسمى بولس, تعلوهم نار الأنيار, يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال " .
أيها المسلمون :
إن تحسين الهيئة , والتجمل, والظهور بالمظهر اللائق أمام الناس, لا يعد من الكبر, لما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود _رضي الله عنه_ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر" , فقال رجل يا رسول الله , إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً , ونعله حسنة, فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم :" إن الله جميلٌ يحب الجمال , الكبر بطر الحق, وغمط الناس ".
أيها المسلمون :
إن للكبر أنواعاً كثيرة أعظمها : تكبر العصاة والفساق على ربهم بعدم طاعته وامتثال أوامره, وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم, وهذا شر أنواع الكبر, لأنه تشبه بالجبابرة الذين تكبروا على الله وعلى رسله , فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر .
ومن أنواع الكبر:
تكبر الأمراء, والوزراء, وذوى السلطة على من تحت أيديهم من الرعايا, وذلك بالاحتجاب عنهم, وعدم النصح لهم والاهتمام بشئونهم, بنصر المظلوم, وردع الظالم, وتفقد أحوالهم, وتطبيق أحكام الله فيهم.
ومن أنواع الكبر:
تكبر العلماء, والدعاة, والوعاظ, على عوام المسلمين, وهذا لا يقل خطراً عن سابقه, لأن الله عز وجل أخذ العهد والميثاق على الذين أوتوا الكتاب _وهم العلماء_ وأمرهم أن يبينوه للناس, ولا يكتمونه وهم القدوة, فإذا تكبروا واغتروا بعلمهم وعبادتهم؛ كان ذلك مدعاة لعدم الاستفادة من علمهم , وأصبح ذلك وبالاً عليهم.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أول الناس يقضى يوم القيامة عليه... ثلاثة, وذكر منهم العالم الذي علَّم ليقال هو عالم " رواه مسلم .
ومن أنواع الكبر :
الفخر بالأنساب, والطعن بالأحساب, كأن يفخر بقبيلته أو نسبه على غيره , وهذا ما تزال رواسبه في المجتمع إلى الآن .
قال صلى الله عليه وسلم : " لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم, أو ليكونن أهون على الله من الجعلان الذي يدهده الخراء بأنفه, إن الله قد أذهب عنكم عُبّيّة الجاهلية, وفخرها بالآباء, إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي الناس كلهم بنو آدم وآدم خلق من تراب"0
رواه أبو داود والترمذي وغيره 0
وقال صلى الله عليه وسلم : "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب, والطعن في الأنساب, والاستسقاء بالنجوم, والنياحة " رواه مسلم.
ومن أنواع الكبر:
كبر الأغنياء على الفقراء, وذلك بعدم العطف عليهم ودفع الزكاة لهم, والتصدق عليهم, وعدم مجالستهم؛ أنفةً واستكباراً عليهم, حتى إن بعض الناس لا يسلّم إلا على صاحب وجاهة أو مال.
ومن كبر الأغنياء على الفقراء؛ عدم دعوتهم إلى الولائم والمناسبات, أما أصحاب الأموال والوجاهة فإنهم المقدمون لذلك, قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء, ويترك المساكين " 0
ومن أنواع الكبر المذموم:
تكبر الرجل على أهل بيته وبنيه.
قال صلى الله عليه وسلم: " خيركم خيركم لأهله, وأنا خيركم لأهلي ".
وما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادماً ولا امرأة قط.
ومن أنواع الكبر الذي ابتلى به كثير من الناس اليوم, التكبر على الخدم والعمال, واحتقارهم, مما أدى بهم إلى الإخلال بالأمانة الموكلة إليهم 0
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد, عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد .
أيها المسلمون:
إن للتكبر في الأرض بغير الحق آثاراً ضارة وعواقب مهلكة, أعظمها التعدي على مقام الألوهية, وذلك بترفع المتكبر وتعاليه على عباد الله.
ومنها أن المتكبر لا يعرف عيوب نفسه لأنه يظن دائماً أنه أرفع من غيره, ومنها القلق والاضطراب النفسي, وذلك أن المتكبر يحب أن تحني الناس رؤوسهم له, وأن يكونوا دوماً في ركابه , فعندما لا يجد ذلك فإنه يصاب بخيبة الأمل .
ومن عواقب التكبر على عباد الله:
الحرمان من الجنة ودخول النار, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ".
وقال صلى الله عليه وسلم:" ألا أخبركم بأهل النار ؟ كل عتل جواظ مستكبر ".
ومن آثار التكبر:
قلة أصحاب المتكبر وأنصاره, لأن النفوس جبلت على حب من ألان لها الجانب, وجبلت على بغض من تكبر عليها0
أيها المؤمنون :
لقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه يوماً, فقال لهم :"إن الله أوحى إلىَّ أن تواضعوا, حتى لا يفخر أحد على أحد, ولا يبغى أحد على أحد " رواه مسلم .
ومن أنواع الكبر: وهو أشرّها على الإطلاق التكبر على الوالدين .
قال تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً{23}}الإسراء
قال صلى الله عليه وسلم :" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر_ ثلاثا_ الإشراك بالله, وعقوق الوالدين, وشهادة الزور, أو قول الزور, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس, فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ". متفق عليه من حديث أبي بكرة وأنس.
وقال صلى الله عليه وسلم: " لعن الله من عق والديه ". والتكبر عليهما من أعظم العقوق 0
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13}}الحجرات .
|