الخطبة الأولى : الحمد لله الذي أصلح بلُطفه الصالحين، وخلَع عليهم خُلع الإيمان واليقين، وحفِظهم بعنايته مما يقبح ويشين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مالك يوم الدين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي الأمين، اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم إلى يوم الدين، أما بعد: فاتقوا الله ربكم وراقبوه في السر والعلن . قال الله تعالى {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فِي هَذِه الْآيَة عدَّة حِكم وأسرار ومصالح للْعَبد فَإِن العَبْد إِذا علم أَن الْمَكْرُوه قد يَأْتِي بالمحبوب والمحبوب قد يَأْتِي بالمكروه لم يَأْمَن أَن توافيه الْمضرَّة من جَانب المسرّة وَلم ييأس أَن تَأتيه المسرة من جَانب الْمضرَّة لعدم علمه بالعواقب فَإِن الله يعلم مِنْهَا مَالا يُعلمهُ العَبْد وَأوجب لَهُ ذَلِك أمورا مِنْهَا أَنه لَا أَنْفَع لَهُ من امْتِثَال الْأَمر وَإِن شقّ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاء لِأَن عواقبه كلهَا خيرات ومسرات ولذات وأفراح وَإِن كرهته نَفسه فَهُوَ خير لَهَا وأنفع وَكَذَلِكَ لَا شَيْء أضرّ عَلَيْهِ من ارْتِكَاب النَّهْي وَإِن هويته نَفسه ومالت إِلَيْهِ وَإِن عواقبه كلهَا آلام وأحزان وشرور ومصائب , وخاصية الْعقل تحمُّل الْأَلَم الْيَسِير لما يعقبه من اللَّذَّة الْعَظِيمَة وَالْخَيْر الْكثير , وَاجْتنَاب اللَّذَّة الْيَسِيرَة لما يعقبه من الْأَلَم الْعَظِيم وَالشَّر الطَّوِيل. فَنَظَرُالْجَاهِل لَا يُجَاوز المباديء إِلَى غاياتها والعاقل الكيّس دَائِما ينظر إِلَى الغايات من وَرَاء ستور مبادئها فَيرى مَا وَرَاء تِلْكَ الستور من الغايات المحمودة والمذمومة فَيرى المناهي كطعام لذيذ قد خُلط فِيهِ سم قَاتل فَكلما دعته لذته إِلَى تنَاوله نَهَاهُ مَا فِيهِ من السم . وَيرى الْأَوَامِر كدواء كريه المذاق مُفضٍ إِلَى الْعَافِيَة والشفاء وَكلما نَهَاهُ كَرَاهَة مذاقه عَن تنَاوله أمره نَفعه بالتناول . وَلَكِن هَذَا يحْتَاج إِلَى فضل علم تدْرك بِهِ الغايات من مبادئها وَقُوَّة صَبر يوطن بِهِ نَفسه على تحمّل مشقة الطَّرِيق لما يؤول اعند الْغَايَة فَإِذا فقد الْيَقِين وَالصَّبْر تعذّر عَلَيْهِ ذَلِك وَإِذا قوي يقينه وَصَبره هان عَلَيْهِ كل مشقة يتحملها فِي طلب الْخَيْر الدَّائِم واللذة الدائمة وَمن أسرار هَذِه الْآيَة أَنَّهَا تَقْتَضِي من العَبْد التَّفْوِيض إِلَى من يعلم عواقب الْأُمُور وَالرِّضَا بِمَا يختاره لَهُ ويقضيه لَهُ لما يَرْجُو فِيهِ من حسن الْعَاقِبَة. وَمِنْهَا أَنه لَا يقترح على ربه وَلَا يخْتَار عَلَيْهِ وَلَا يسْأَله مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ علم فَلَعَلَّ مضرّته وهلاكه فِيهِ وَهو لا يعلم فَلَا يخْتَار على ربه شَيْئا بل يسْأَله حسن الِاخْتِيَار لَهُ وَأَن يرضيه بِمَا يختاره فَلَا أَنْفَع لَهُ من ذَلِك . وَمِنْهَا أَنه إِذا فوَّض إِلَى ربه وَرَضي بِمَا يختاره لَهُ أمده فِيمَا يختاره لَهُ بِالْقُوَّةِ عَلَيْهِ والعزيمة وَالصَّبْر وَصرف عَنهُ الْآفَات الَّتِي هِيَ عرضة اخْتِيَار العَبْد لنَفسِهِ وَأرَاهُ من حسن عواقب اخْتِيَاره لَهُ مَا لم يكن ليصل إِلَى بعضه بِمَا يختاره هُوَ لنَفسِهِ . وَمِنْهَا أَنه يريحه من الأفكار المتعبة فِي أَنْوَاع الاختيارات ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات الَّتِي يصعد مِنْهُ فِي عقبَة وَينزل فِي أُخْرَى وَمَعَ هَذَا فَلَا خُرُوج لَهُ عَمَّا قدر عَلَيْهِ فَلَو رَضِي بِاخْتِيَار الله أَصَابَهُ الْقدر وَهُوَ مَحْمُود مشكور ملطوف بِهِ فِيهِ وَإِلَّا جرى عَلَيْهِ الْقدر وَهُوَ مَذْمُوم غير ملطوف بِهِ فِيهِ لِأَنَّهُ مَعَ اخْتِيَاره لنَفسِهِ , وَمَتى صَحَّ تفويضه وَرضَاهُ اكتنفه فِي الْمَقْدُور الْعَطف عَلَيْهِ اللطف بِهِ فَيصير بين عطفه ولطفه فعطفه يَقِيه مَا يحذرهُ ولطفه يهوّن عَلَيْهِ مَا قدره الخطبة الثانية الحمد لله كثيرًا ، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد فهذه الآيات عامة مطردة، في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة أنها خير بلا شك، وأن أفعال الشر التي تحب النفوس لما تتوهمه فيها من الراحة واللذة فهي شر بلا شك. وأما أحوال الدنيا، فليس الأمر مطردا، ولكن الغالب على العبد المؤمن، أنه إذا أحب أمرا من الأمور، فقيض الله [له] من الأسباب ما يصرفه عنه أنه خير له، فالأوفق له في ذلك، أن يشكر الله، ويجعل الخير في الواقع، لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه، وأقدر على مصلحة عبده منه، وأعلم بمصلحته منه كما قال [تعالى:] {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فاللائق بكم أن تتمشوا مع أقداره، سواء سرتكم أو ساءتكم. ومن الشواهد ما قصه الله علينا في سورة الكهف من خبر الخضر وموسى عليهما السلام قال تعال { وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) } يْ: يَحْمِلُهُمَا حُبُّهُ عَلَى مُتَابَعَتِهِ عَلَى الْكُفْرِ. قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ فَرِحَ بِهِ أَبَوَاهُ حِينَ وُلِدَ، وَحَزِنَا عَلَيْهِ حِينَ قُتِلَ، وَلَوْ بَقِيَ كَانَ فِيهِ هَلَاكُهُمَا، فَلْيَرْض امْرُؤٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ، فَإِنَّ قَضَاءَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِ فِيمَا يَكْرَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ قَضَائِهِفِيمَا يُحِبُّ. اللهم أعز الاسلام والمسلمين ...الخ ولمزيد من خطب الشيخ الوليد الشعبان
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|