العفو عند المقدرة
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهد الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله واعبدوه فإنما خلقكم لعبادته وتقواه.
أيها الناس:
أمر الله بالعفو في كتابه في مواطن كثيرة, وامتدح العافين عن الناس أيضاً, وذلك لما في هذه الخصلة الحميدة وهي العفو من الآثار الحسنة على النفوس, ولما تسببه من محبة وإخوة بين المؤمنين, قال سبحانه : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ {199}}الأعراف.
وقال أعز من قائل:{ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {13} }المائدة.
وقال سبحانه : {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {14}} التغابن.
وقال عز وجل:{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {134}} آل عمران.
وقال سبحانه :{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {34}}فصلت .
وقال عز وجل:{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ {43}} الشورى.
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " وما زاد الله تعالى عبداً بعفو إلا عزاً ".
ومدح النبي صلى الله عليه وسلم أشج عبد القيس عندما قال فيه:" إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة " رواه مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه " رواه مسلم.
وروى أيضا عن عائشة أنه قال عليه الصلاة والسلام:" إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه, ولا ينزع من شيء إلا شانه" رواه مسلم.
ولقد تمثل صدر هذه الأمة هذه الوصايا الربانية, والتوجيهات النبوية, فعفوا عمن ظلمهم, وأعطوا من حرمهم, ووصلوا من قطعهم, طاعة لله ورسوله, وامتثالاً لأمره سبحانه, وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
فروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قدم عيينة بن حصن بن حذيفة, فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس, وكان من النفر الذين يدنيهم عمر, وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشورته كهولاً كانوا أو شباناً, فقال لابن أخيه : يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه, قال : سأستأذن لك عليه, قال ابن عباس : فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر, فلما دخل عليه قال : هي يا ابن الخطاب, فو الله ما تعطينا الجزل, ولا تحكم بيننا بالعدل, فغضب عمر حتى هم به, فقال له الحر : يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) وإن هذا من الجاهلين , قال : والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه, وكان وقافا عند كتاب الله.
وروى البخاري أيضاً عن عبد الله بن الزبير : ( خذ العفو وأمر بالعرف) قال : ما أنزل الله إلا في أخلاق الناس, وقال عبد الله بن براد, حدثنا أبو أسامة, حدثنا هشام عن أبيه وعن عبد الله بن الزبير قال : أمر الله نبيه صلى الله علي وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس.
فانظروا رحمكم الله إلى هذا الخليفة القوي في إيمانه, والقوي في إمارته وحكمه وعدله, كيف عفا بمجرد سماعه لهذه الآية العظيمة: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}, لأن التواضع والعفو من علامات المؤمنين, والغلظة والشدة والتكبر والتجبر على الخلق من علامات المستكبرين , فالعفو منقبة حميدة , وخصلة رشيدة والخطأ في العفو خيرٌ من الخطأ في العقوبة .
روى البيهقي وغيره عن عمر رضي الله عنه انه قال : ( لأنْ أُخطئ في العفو أحب إلىَّ من أن أخطئ في العقوبة).
وكما قيل: الندم على العفو خيرٌ من الندم على العقوبة.
ولما ظفر المنصور بأهل الشام وقد أجلبوا عليه وخالفوه, قال له رجل ٌمن جلسائه: الانتقام عدل, والتجاوز فضل, ونحن نعيذ أمير المؤمنين بالله بأن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين, ولا يبلغ أرفع الدرجتين .
وقال المهلب ابن أبي صفرة :( خير مناقب الملوك العفو).
ولقد عفا نبي الله يوسف عليه السلام عن إخوته بعد ما كادوا له كيداً عظيماً, فبعد أن ظفر بهم مع قدرته على عقوبتهم قال لهم:( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين).
فالعفو عند المقدرة من أعظم الحسنات , وجزى الله ولاة أمرنا خيراً على هذا العفو عن هؤلاء المارقين والمحاربين لله ورسوله, والساعين في الأرض فساداً , حيث أعطاهم الأمان , وعفا عن الحقوق العامة , وما كان من حقوق خاصة فأمره للقضاء, فعلى أولئك اغتنام هذا العفو, والمبادرة للتوبة إلى الله أولاً, والاعتذار عن الإساءة, والله عز وجل يقول: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {53}} الزمر.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
|