5 / ذو القعدة / 1441
تطهير
البيت وولاية الحج إِنَّ
الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا
وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ
أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً، أما
بعد: أما
بعد فاتقوا الله عباد الله وعظموا شعائره، ((ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ
اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)). أيها المسلمون:
مكة وبكة، البلدُ الأمين الحرام، أحبُ البقاع إلى الله، وإلى رسول الله، وإلى عباد
الله المؤمنين. عظم الله شأنها،
فضاعف الصلاة فيها أضعافاً كثيرة، وعظم الحسنة فيها، وعظم السيئة، وعاقب على الهم
بها فيها. وجعلها الله بلداً
حراماً آمناً مباركاً، وفرض على الناس استقبالها. فجعل كعبتَه المشرفةَ
قبلةَ العبادة، فهو أولُ بيت وضع للناس في الأرض للعبادة. وعظم شأن الحج إليه،
فجعله شعيرة من شعائر الإسلام المعظمة، وفريضة من فرائضه الجليلة مرة في العمر، ومن
أجله ولأجلها حرم الأشهر الحرم يوم خلق السماوات والأرض. عباد الله: كلَّف الله خليله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة
والسلام ببناء البيت ورفع قواعده، فبنياه وهما يسألان ربهما القبول،
فلما أتمَّا البناء سألا ربهما أن يريهما مناسك حج البيت، فنزل جبريل عليه السلام
فأوقفهما على المناسك كلها: الطوافِ والسعيِ ومشعرِ الصفا والمروةِ ومنى ومزدلفةَ
وعرفةَ. ثم أمر الله إبراهيم الخليل بالأذان في الناس
بالحج، وتكفل الله بإبلاغ صوته للقريب والبعيد، فنادى إبراهيمُ في الناس بالحج،
فأوصل الله صوته للناس كافة في أقطارِ الأرضِ كلِّها. فحج الناسُ بيت الله الحرام بعد أذان إبراهيم
عليه السلام، وحجت الأنبياء وأتباعهم من بعده، وصلى في مسجد منى (الخيف) سبعون
نبياً، وكل من حج بعد إبراهيم وإلى اليوم هو ممن أجاب نداء إبراهيم، لذا يقول الحُجَّاج:
(لبيك اللهم لبيك). أيها الناس: وعَهِدَ
الله إلى إبراهيمَ وإسماعيل عليهما السلام تَطْهيرَ البيتِ من الأنجاس الحسية
والمعنوية ((وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا
بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)) فقاما بالتكليف،
وَوَفَّيَا بالعهد، فطَهَّرَا البيتَ كما أمرهما الله. وتطهيرُ البيت الحرام
من الأنجاس المعنوية هو الأساسُ والأصلُ والمقصدُ الأعظم، ويتحققُ بتطهيره من دنس
الشرك والأوثان التي تعبد من دون الله، وتجنيبه قاذورات البدع والفواحش والآثام، لذا
يقول الله تعالى: ((وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا
تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ)) فالشرك والمشركون
أنجس النجس، لذا يقول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ
هَٰذَا)) ثم ورِثَ نبيُنَا
محمدٌ
صلى الله عليه وسلم خاتمُ النبيين هذا العهدَ الربانيَّ الجليلَ فطهر مكة من
الأوثان يوم فتْحِها العظيم، وتَحَوُّلِها إلى دار إسلام وتوحيد، فأزال الأصنام
التي كانت حول الكعبة المشرفة، وطَمَسَ الصورَ التي في جوفها. ثم قام بهذا العهدِ من بعده الخلفاءُ الراشدون، والأئمةُ
المهديون، والأمراءُ الموفقون. ثم وقع الشرك في عصور
الأمة الوسطى، وغلبت معالم الشرك في بلد الله الحرام. حتى جاء العصر الذي قامت فيه هذه الدولةُ المباركةُ، الدولةُ السعودية، والتي
تأسست على التوحيد والسنة، فأَطَرَتِ الناس عليهما، وأخذت على عاتقها القيامَ بهذا
العهد الرباني: (تطهيرَ البلدِ الحرامِ من مظاهر الشرك والأوثان)، فأزالت الدولة
السعودية من مكة القباب والأضرحة، التي أحدثها مَنْ قَبْلَهم، وحاربت الشرك والبدع،
ونشرت التوحيد والسنة، لِيَعْبُدَ الناسُ ربَّ هذا البيت كما أُمِرُوا: ((فليعبدوا
رب هذا البيت الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ)). وأهل هذا
العصر يجب أن يكونوا شهوداً لهذه الدولة على
هذا التطهير الحبير لبلد الله الحرام، والذي لا يتصور حصول عشر معشاره لو كان
البلدُ الحرام تحت ولايةٍ حزبية لا ترفع رأساً بعقيدة ولا بسنة، أو كان تحت ولاية
صوفية أو رافضية أو ديمقراطية أو علمانية ترعى الشرك والبدعة بدعوى الحرية. ولو لم يكن للدولة
السعودية حسنةٌ ومفخرةٌ إلا هذه لكفى بها مفخرةً وحسنة، وكفى بها مُوجِبَةً على كل
موحد سني أن يحمدها عليها ويواليها ويناصرها ضد أعدائها المتربصين بها. اللهم
احفظنا واحفظ ولاتنا قائمين بالتوحيد والسنة سائرين عليهما واحفظ بلادنا من كل
حاقد وعدو متربص يا رب العالمين، أقول ما تسمعون،
وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية: الحمد
لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله إله
الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين
المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين أما بعد: أيها المسلمون:
واجب على الأمة بمجموعها أن تقيم الحج كلَّ عام. والحج من الولايات
العظيمة المنوطة بالسلطان (ولاة الأمور)، نص على ذلك فقهاء الإسلام، فلا تكاد تجد
كتاباً من كتب الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية إلا وتحدث عن ولاية الحج كواحدة
من ولايات الإمام. وقد نص الفقهاء على
أن ولايةَ الحج مخصوصة بولاة (بلاد الحج). وعليه فولاية الحج من
ولايات حكام بلاد الحرمين، لا ينازعهم في هذه الولاية إلا ظالمٌ طاغٍ باغٍ عادٍ
منازعٌ الأمر أهله. يقول ابن عبد البر
رحمه الله: إِقَامَةَ الْحَجِّ إِلَى الْخُلَفَاءِ. ويقول: لَا خِلَافَ
بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْحَجَّ يُقِيمُهُ السُّلْطَانُ لِلنَّاسِ
وَيَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِ مَنْ يُقِيمُهُ لَهُمْ عَلَى شَرَائِعِهِ وَسُنَنِهِ
فَيُصَلُّونَ خَلْفَهُ، بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا. وَأَوَّلُ أَمِيرٍ للحج هو أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه،
بَعَثَهُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحج سَنَةَ تِسْعٍ فحج
بالناس، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بعَلِي بن أبي طالب رضي الله عنه. ثم حج هو عليه الصلاة
والسلام بالناس، سنة عشر، فحج حجته الوحيدة، حجة الوداع، وأراهم مناسكهم وأمرهم
بالاقتداء به. عباد الله:
ويذكر الفقهاء أن ولاية الحج نوعان: ولاية تسيير الحجيج، وولاية إقامة الحج. والناظر في الوظائف
التي ذكرها الفقهاء لهاتين الولايتين يجد أن وُلاة هذه البلاد رعاهم الله قائمون بها
خير قيام، ويولونها اهتماماً بالغاً ويسخرون كافة أجهزة الدولة ووزاراتها وطاقاتها
وإمكاناتها لخدمة شعيرة الحج وحجاج بيت الله. فترى في الحج
ومشاعره: إمارة منطقة مكة المكرمة، ووزارة الداخلية، ووزارة الحج، ورئاسة الحرمين،
ورئاسة الإفتاء، وهيئة كبار العلماء، ووزارة الشؤون الإسلامية، ووزارة العدل،
ورئاسة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووزارة الصحة، ووزارة البلديات،
وشركة المياه والكهرباء، وغيرها، كل يعمل في مجاله واختصاصه، نائباً عن الملك في
وظيفة من وظائف الولاية. ومن صور عناية الدولة ورعايتها للحج والحجاج، ما قررته وأعلنت عنه من
إقامة الحج هذا العام، وفتح بابه للمسلمين المتواجدين داخل البلاد من مواطنين
ومقيمين، وفق أعداد محددة، وبتطبيق للاحترازات الصحية، نظراً لظرف وباء كورونا
الذي لا يزال منتشراً وينتشر في بلاد العالم. فهذا
القرار من النصح للإسلام والمسلمين، ولبلد الله الأمين، ومن الاحتياط لحفظ أنفس
المؤمنين. فواجبٌ
علينا عباد الله أن نلتزم بما قررته الدولة من تنظيمات، ونحسن الظن بولاتنا
وبإجراءاتهم، ونتعاون معهم فإنه والله من البر والتقوى، وندعو لهم، ولا نصغي لمن
يشكك أو يشوش أو يفتري. اللهم
احفظ علينا ديننا وأمننا وجماعتنا واستقرارنا وعافيتنا وصحة أبداننا، اللهم ادفع
وارفع عنا الوباء والبلاء، وقنا شر الأدواء يا سميع الدعاء. اللهم إنا نعوذ بك من
جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء، اللهم إنا نعوذ بك من زوال
نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك اللهم إنا نعوذ بك من البرص والجنون
والجذام وسيئ الأسقام. اللهم إنا نسألك أن تكفينا شر الأوبئة والأمراض. اللهم
احفظنا واحفظ بلادنا وبلدان المسلمين من كل سوء ومكروه. اللهم آمنّا في أوطاننا
ودورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم
للبر والتقوى واجزهم خير الجزاء وأوفاه وأعظمه على ما يقومون به من خدمة للحرمين
الشريفين ونصرة للإسلام والمسلمين يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا
في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ
هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين
والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب الدعوات.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح
العريفي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121
|