أسباب المغفرة
الحمدُ للهِ الذّي وسعتْ رحمتُهُ كلَّ شيءٍ، وعمّ بفضلِهِ كلَّ حيٍّ،
أحمدُ ربِّي وأشكُرُهُ ما أعظمَ برَّه وأكثرَ خيرَه وأغزرَ إحسانه وأوسعَ امتنانَه،
وأشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له ولا ربَّ لنا سواه ولا نعبُدَ إلا إيّاه
، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وسلم تسليما كثيراً إلى يوم لقاه أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله حق تقواه، فمن اتقاه وقاه، وتأملوا في أحوالكم
وقلوبكم فرحمة الله عظيمة وخيره عميم.
أيها
المسلمون، عن أنس بن مالك رضي عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي
وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ
لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ
وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا
ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَة"،
رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".
هذه ثلاثة
أسباب وأبواب للمغفرة، فتحها مَنْ يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل
ليتوب مسيء النهار:
أولها
الدعاء مع الرجاء وذلك في قوله عز وجل: "يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي
وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي"، وأعظم ما
يسأل العبد ربه أن يسأله مغفرة ذنوبه؛ ولذا لما سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله قالت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أيّ ليلة ليلة
القدر ماذا أقول فيها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "قولي: اللهم إنك عفوّ تحبّ العفوَ
فاعف عني". ومن رحمة الله تعالى بعبده أن العبد يدعوه بحاجه من الدنيا : فإما
أن يصرف عنه بذلك سوءًا، أو يدّخرها له في الآخرة، أو يغفر له بها ذنبا، فعن أبي سعيد
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ
فِيهَا إِثْمٌ ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ
: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ
مِثْلَهَا". قالوا: إذا نكثر؟ قال: "الله أكثر" رواه أحمد, وعند الطبراني
"وإما أن يغفر له بها ذنبًا قد سلف".
ولذلك
يا عباد الله فإن العبد إذا أذنب ذنبا فأنه يعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا الله تعالى،
ولا يأخذ بها غيره، فلا يرجو مغفرته من غير ربه، فهذا من أعظم أسباب المغفرة لما ورد
عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا قال: ((يأتي الله بالمؤمن يوم القامة فيقربه حتى
يجعله في حجابه من جميع الخلق، فيقول له: اقرأ، فيعرّفه ذنوبه ذنبًا ذنبا، يقول: أتعرف
أتعرف؟ فيقول: نعم نعم، حتى يظن العبد أنه قد هلك، فيقول الله تعالى: لا بأس عليك يا
عبدي، أنت في ستري من جميع خلقي، ليس بيني وبينك اليوم أحد يطّلع على ذنوبك غيري، إني
سترتها عليك في الدنيا وغفرتها لك بحرف واحد من جميع ما أتيتني به، قال: ما هو يا رب؟
قال: كنت لا ترجو العفو من أحد غيري))، فالإلحاح بدعاء الله تعالى بالمغفرة مع رجاءه
تعالى موجب للمغفرة ، والله تعالى يقول : ((أنا عند ظن عبدي بي ، فليظن بي ما شاء))،
وفي رواية : ((فلا تظنوا بالله إلا خيرا)) .
الثاني
من أسباب المغفرة الاستغفار، ولو عظمت الذنوب ، وبلغت كثرتها عنان السماء، كما قال
جل وعلا: ((يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي
غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي))، وقد امتدح الله عز وجل عباده المتقين بقوله: وَالَّذِينَ
إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ
لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ ولم يصروا على مافعلوا وهم
يعلمون.
وهذا
الاستغفار هو المقرون بالعزم على ترك الذنب وعدم الإصرار عليه، قال ابن عباس رضي الله
عنهما: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ
بربه"، فإذا أقلع العبد عن الذنب وعزم على عدم العود إليه واستغفر الله عز وجل
غفر الله له. وَكَثِيرًا مَا يُقْرَنُ الِاسْتِغْفَارُ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ، فَيَكُونُ
الِاسْتِغْفَارُ حِينَئِذٍ عِبَارَةً عَنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ بِاللِّسَانِ، وَالتَّوْبَةُ
عِبَارَةً عَنِ الْإِقْلَاعِ مِنَ الذُّنُوبِ بِالْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ.
وَمُجَرَّدُ
قَوْلِ الْقَائِلِ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي" - طَلَبٌ مِنْهُ لِلْمَغْفِرَةِ
وَدُعَاءٌ بِهَا، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الدُّعَاءِ، فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ
أَجَابَهُ وَغَفَرَ لِصَاحِبِهِ، لَا سِيَّمَا إِذَا خَرَجَ عَنْ قَلْبٍ مُنْكَسِرٍ
بِالذَّنْبِ أَوْ صَادَفَ سَاعَةً مِنْ سَاعَاتِ الْإِجَابَةِ كَالْأَسْحَارِ وَأَدْبَارِ
الصَّلَوَات.
وأفضل
أنواع الاستغفار أن يبدأ العبد بالثناء على ربه، ثم يثني بالاعتراف والإقرار بذنبه،
ثم يسأل الله المغفرة، كما في حديث شداد بن أوس –رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ
إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ
مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ
عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
إِلَّا أَنْتَ" خرجه البخاري.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات
والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد
أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليماً كثيراً، أما
بعد:
عباد
الله، ومن أعظم أسباب مغفرة الذنوب الواردة في الحديث: التوحيد فمن فقده فقد المغفرة
، ومن جاء به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة، وهو ما ختم الله عز وجل به أسباب المغفرة
بقوله: "يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا
ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَة".
فالتوحيد
أعظم أسباب مغفرة الذنوب، ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ
مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) [النساء: 48]. فمن حقق كلمة التوحيد في قلبه وصدّق
ذلك بقوله وفعله أخرجت منه كلَّ ما سوى الله محبّة وتعظيما وإجلالا ومهابة وخشية ورجاء
وتوكّلا، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلّها ولو كانت مثل زبد البحر، فإن هذا التوحيد
هو الإكسير الأعظم، فلو وضع منه ذرّة على جبال الذنوب والْخطايا لقلبها حسنات، ولا
أدلَّ على ذلك ما في حديث صاحب البطاقة الذي وزنت سجلاته الْمملؤة بالسيئات في كفة،
وكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) في كفة أخرى فطاشت السجلات ورجحت كفة كلمة التوحيد
بعد ما رأى صاحبها انه هلك كما رواه الامام أحمد في المسند .
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الرضا والغضب،
والقصد في الغنى والفقر، ونسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ونسألك لذة
النظر في وجهك، وشوقا إلى لقائك، من غير ضراء مضرة، أو فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة
الإيمان، واجعلنا من الهداة المهتدين. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم
إنا نسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، ونسألك شكر نعمتك ، وحسن عبادتك
، ونسألك قلوبا سليمة ، وألسنة صادقة ، ونسألك من خير ما تعلم ، ونعوذ بك من شر ما
تعلم ، ونستغفرك لما تعلم ، إنك أنت علام الغيوب .اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته
، ولا همّا إلا فرّجته ، ولا كربا لا نفَّسته ، ولا ضرّا إلا كشفته ، ولا ديْنا إلا
قضيته ، ولا عدوا إلا أهلكته ، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها يا أرحم
الراحمين.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أعلنّا وما أسررنا وما أنت أعلمُ
به منا أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيءٍ قدير، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت،
أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا،
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع
به العباد، وتجعله زاداً للحاضر والباد يا ذا الجلال والإكرام .اللهم صلّ وسلم على
نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ الوليد الشعبان تجدها هنا: