في الحث على سلوك طريق الحكمة والرفق في كل الأمور
مستفاد من كلام الشيخ السعدي رحمه الله
الحمد لله أحكم الحاكمين، وضع كل شيء في موضعه، فتجلت حكمته، فتبارك
الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحكيم الخبير، وأشهد
أن محمدا عبد الله ورسوله، أعظم الخلق حكمة، وأرجحهم عقلا، وأحسنهم تدبيرا، فاللهم
صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد صلاة دائمة كاملة بدوام وكمال ملكك وعلى آله وصحبه ومن
تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أمّا بعد،
عباد
الله: اتقوا اللهَ تعالى, واعلموا أن قال تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ
وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا
أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. والشريعة كلها حكمة: قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ ، وأثنَى على لقمان بالحِكَمة فقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا
لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ﴾. ولما ذكر أصول الشرائع ومُهماتِها، قال: ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى
إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾.
فماء
جاء به الرسول من الكتاب والسنة كله حكمة، بل هو أعلى أنواع الحكمة على الإطلاق؛ لأن
الحكمة معرفة الحق والصواب، والعمل بذلك، والشريعة تدور على ذلك، لا تخرج عنه.
فمن عرف
الحق فاتبعه، والباطل فاجتنبه، فهو حكيم.
والغرض
هنا عباد الله أخص من هذا : وهو حث الإنسان أن تكون أقواله وأفعاله وتدبيراته تابعة
للحكمة، موافقة للصواب، غير متقدمة على أوانها، ولا متأخرة، ولا فيها زيادة عما ينبغي،
ولا نقص. وأن يكون فِي كل فرد من أفراد حركاته المذكورة، مجتهداً في معرفة نفعه وصلاحه،
سالكًا أقرب طريق مُوصِّل له إلى ذلك.
بتحقيق
هذا يُعرف كمال عقل الإنسان ورزانته ولبه، وبه تُدرك الأمور وتنجح المقاصد.
واعلم
أن طريق كل أمر ما يناسبه، قال تعالى:﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الْحَسَنَةِ﴾.
فالدعوة
إلى الله، أو إلَى سبيله، تشمل تعليم الجاهلين، ووعظ الغافلين، وتشمل النصيحة الخاصة
لآحاد الناس وأفرادهم فِي الأمور الدينية والدنيوية، فإذا سلك الداعي فيها طريق الحكمة،
كان أقرب وأرجى لحصول مقصودة، ولهذا ينبغي تعليم كل أحد ما هو أنفع له، وبعبارة أو
دلالة أقرب إلى ذهنه. ولهذا قيل في تفسير "الرَّبَّانيِّين": هم الذين يعلِّمون
الناس صغار العلم قبل كباره.
ومن الحكمة
في تعليم العوام وإرشادهم: أن يُعلَّموا ما يَحتاجونه بألفاظ، وعبارات مناسبة لأذهانهم،
قريبة من أفهامهم، فهذا فيه نفع كبير.
وكذلك
ينبغي لأهل العلم في مَجالسهم مع الناس العامة والخاصة أن يبحثوا بما يناسب الحال عند
المناسبات من المسائل العلمية، فكم حصل فيها من منافع كثيرة من غير تشويش، ولا قطع
عن مقصودها، وهذا من الحكمة.
ومن الحكمة
في حق الناصح: أن يكون رفيقًا متأنيًا، متوخيًا للحالة المناسبة للمنصوح بلين، قال
تعالى: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا
لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾. ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى﴾. ومما
يعين المعلم والمذكر: معرفة طبائع الناس وأخلاقهم، والوسائل التي يؤتون من جهتها.
والرفق
أصل كبير في هذا وغيره، قال صلى الله عليه وسلم: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا
كان العنف في شيء إلا شانه»أخرجه مسلم .
وكذلك
تُسلك الحكمة فِي معاملة الأولاد ومُعاشرة الزوجات، فإنه يُراد منهم أمران عظيمان مهمان:
أحدهما:
إصلاحهم، وتَهذيبهم؛ لتقوية دينهم، وتربية أخلاقهم، فهؤلاء يُسلك معهم كل طريق يُسلك
مع غيرهم، وطرق خاصة تناسب أحوالَهم، ويوجههم وليهم فيه إلى كل خير، بترغيب ولين وحسن
معاملة، وكل أحد يعرف من أحوال أولاده وأهله ما لا يعرفه غيره.
الأمر
الثاني: أنه يراد منهم القيام بِحق الوالدين، وبالعشرة الواجبة، والمستحبة بين الزوجين،
وذلك أيضًا بدعوتِهم إليه بالحال والمقال، وبالحكمة والرفق.
ومن أنجح
ذلك: أن يكون الوالدان قائمين بِحق الأولاد والزوج قائما بِحق زوجته، فإذا طلب منهم
القيام بِما عليهم في هذه الحال، سهل عليهم، بخلاف ما إذا لم يقم الوالدان والزوج بحقوقهم
فإن تقويمهم يصعب جدًا، وكيف تطلب ما لك، وأنت مانع الحق الذي عليك؟
عبد الله
حاور نفسك حتى تقودها للجادة . فقل لها: يا نفس! أيما أولَى: تقديم لذة قليلة حشوها
الأكدار، وطيها الغُموم والهموم والخسار، على لذات متواصلات كاملات بلا كدر ولا منغص
في دار القرار؟
وأيُّما
أولَى: تحصيل لذة الإيْمان، أو اللذات البهيمية التي مآلها الخيبة والحرمان؟
يا نفس!
ابذُلي اليسير من القوة فيما يعود عليك بالخير والبركات، ولك منِّي أن أراضيك بِما
تحبين من اللذات المُباحات. قومي بِما عندك من الحقوق والواجبات والمستحبات، أقم لك
بما تُحبين من الراحات، وتناول الطيبات.
ثم قل
يا نفس، قد أرشدك معلم الخير صلى الله عليه وسلم إلى أعمال نافعة عظيمة النفع يسيرة
على النفس، فقال: «استعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلْجة، والقصد القصد تبلغوا»
أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال
معاذ بن جبل رضي الله عنه:يا رسول الله! أخبرني بعمل يُدخلني الجنة، ويباعدني عن النار؟
قال: «لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به
شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتَحج البيت.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات
والذكر الحكيم. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين إنه هو الغفور
الرحيم.
الْحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك
عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد
فالحكمةُ هي ضالَّةُ المؤمن أنَّى وجَدَها أخَذَ بها، ولن يجِدَها من لم يكن كتابُ
الله وسنةُ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - هما من يقُودان فؤادَه؛ لأنها ذُكِرت في
القرآن تاليةً لكتاب الله، كما قال تعالى: ﴿ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ﴾، كأن في ذلكم إشارةً إلى أن الحكمة لا تكون في معزلٍ عن كتاب الله وسنة
نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - كي لا تفتقِد قيمَتَها؛ لأن العقل البشري وحدَه غيرُ
كافٍ في تحصيلِ لُباب الحكمة والظَّفَر بها. ورسولُنا - صلى الله عليه وسلم - بإجماع
العُقلاء أنه كان أعقل الناس وأكمل الناس ذهنًا وعقلاً، غير أن ذلك لم يكن كافيًا وحده
دون نورٍ من الله وهُدًى، ولذلك قال الله تعالى عنه: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ
جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم﴾.
ولذلك
الحكيمُ - عباد الله - يعرِفُ متى يتكلَّم ومتى يسكت؛ لأن من الناس من لا يُكرَم
إلا بلسانه ولا يُهانُ إلا به، والحكيمُ يعرِفُ مواضعَ الإكرام ومواضعَ الإهانة؛
لأنه يُدرِك أنه إذا قال ربما ندِم، وإن لم يقُل لم يندَم، وهو على ردِّ ما لم
يقُل أقدرُ منه على ردِّ ما قال، والكلمةُ إذا تكلَّم بها ملَكَته، وإن لم يتكلَّم
بها ملَكَها.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها
ومولاها يا ذا الجلال والإكرام. اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت، خلقتنا ونحن
عبيدك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، نبوء لك بنعمتك
علينا، ونبوء بذنوبنا، فاغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. اللهم أعنا ولا
تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى
لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك شاكرين.. لك ذاكرين.. لك راغبين..
لك راهبين. اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، ويسر
أمورنا، وطهر قلوبنا، واسلل سخيمة قلوبنا، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعلنا
من الشاكرين لآلائك، الصابرين على بلائك، الناصرين لأوليائك. اللهم زدنا ولا
تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا. اللهم إنا
نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل
إثم، والفوز بالجنة والنجاة من النار، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً يا
عليم، اللهم فقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما
تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به
علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله
الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا
فى ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، وﻻ مبلغ علمنا، وﻻ تسلط علينا من ﻻ يرحمنا، ربنا
آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، وآخر دعوانا الحمد لله رب
العالمين.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129 |