القول الخيار في سيّد الاستغفار
الحمدُ للهِ الكريمِ الوهاب، غافرِ الذنبِ، وقابلِ التَّوبِ، شديدِ العقاب، يحبُّ التوابينَ، ويغفرُ للمخطئينَ المستغفرينَ، وأشهد أن لا إله إلا الله، إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أنَّ محمدَاً عبد الله ورسوله، أرسلَهُ الله رحمة للعالمين؛ صلى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وأصحابِهِ والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومٍ الدِّينِ أما بعد:-
فيا عباد الله: عليكم بتقوى الله فهي الربح الذي لا خسارة فيها ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾.
كثير من الناس في هذه الأيام التي نعيشها يبحث عن أمن وأمان له من هذه الفتن والمحن والابتلاءات التي نعيشها ولم يعلم بأن أعظم ما يقيه من الفتن الاستغفار، فبالاستغفار تغفر الخطايا والذنوب، وبالاستغفار تكون البركة فى الأرزاق، والاستغفار عباد الله شأنه عند الله عظيم وأجره كبير، وأعظم الاستغفار ما وافق القلب اللسان ووافق إقلاعاً عن الذنب.
والقرآن والسنة مليئان بالحث عليه قال تعالى: ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾، وقال تعالى: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: "وَاللَّهِ إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً" رواه البخاري.
أيها الناس: من أجمع الأدعية في الاستغفار وأنفعها سيد الاستغفار فهو دعاء مبارك جمع بين الاعتراف بالرب إلهاً وخالقاً وبين تقصير العبد، روى الامام البخاري في صحيحه عنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي اللَّه عنْهُ عن النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قالَ: « سيِّدُ الاسْتِغْفار أَنْ يقُول الْعبْدُ : اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي ، لا إِلَه إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَني وأَنَا عَبْدُكَ ، وأَنَا على عهْدِكَ ووعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما صنَعْتُ ، أَبوءُ لَكَ بِنِعْمتِكَ علَيَ ، وأَبُوءُ بذَنْبي فَاغْفِرْ لي ، فَإِنَّهُ لا يغْفِرُ الذُّنُوبِ إِلاَّ أَنْتَ . منْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِناً بِهَا ، فَمـاتَ مِنْ يوْمِهِ قَبْل أَنْ يُمْسِيَ ، فَهُو مِنْ أَهْلِ الجنَّةِ ، ومَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وهُو مُوقِنٌ بها فَمَاتَ قَبل أَنْ يُصْبِح ، فهُو مِنْ أَهْلِ الجنَّةِ ».
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: في قوله عليه السلام: " سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت" قد اشتمل هذا الحديث من المعارف الجليلة ما استحق لأجلها أن يكون سيّد الاستغفار، فإنه صدّره باعتراف العبد بربوبية الله، ثم ثنّاها بتوحيد الإلهية بقوله : ((لا إِلَه إِلاَّ أَنْتَ )). ثم ذكر اعترافه بأن الله هو الذي خلقه وأوجده ولم يكن شيئا ، فهو حقيق بأن يتولى تمام الإحسان إليه بمغفرة ذنوبه ، كما ابتدأ الإحسان إليه بخلقه .
ثم قال: "وأَنَا عَبْدُكَ " اعترف له بالعبودية ، فإن الله تعالى خلق ابن آدم لنفسه ولعبادته. فالعبد إذا خرج عما خلقه الله له من طاعته ومعرفته ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، فقد أبق من سيده ، فإذا تاب إليه ورجع إليه فقد راجع ما يحبه الله منه ، فيفرح الله بهذه المراجعة. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم يخبر عن الله تعالى: ((لَلهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبدِه ، حين يتوبُ إليه ، من أحدِكم كان على راحلتِه بأرضِ فلاةٍ، فانفلتت منه، وعليها طعامُه وشرابُه، فأيسَ منها))، وهو سبحانه هو الذي وفقه لها، وهو الذي ردها إليه. وهذا غاية ما يكون من الفضل والإحسان، وحقيق بمن هذا شأنه أن لا يكون شيء أحب إلى العبد منه.
ثم قال: " وأَنَا على عهْدِكَ ووعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ " فالله سبحانه وتعالى عهد إلى عباده عهداً أمرهم فيه ونهاهم ، ووعدهم على وفائهم بعهده أن يثيبهم بأعلى المثوبات، فالعبد يسير بين قيامه بعهد الله إليه وتصديقه بوعده. أي أنا مقيم على عهدك مصدق بوعدك. والفعل إيمانا هو العهد الذي عهده إلى عباده ، والاحتساب هو رجاؤه ثواب الله له على ذلك، وهذا لا يليق إلا مع التصديق بوعده.
وقوله: " ما اسْتَطَعْتُ " أي إنما أقوم بذلك بحسب استطاعتي ، لا بحسب ما ينبغي لك وتستحقه علي.
ثم قال: " أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما صنَعْتُ" فاستعاذته بالله الالتجاء إليه والتحصن به والهروب إليه من المستعاذ منه وهي الشرور والآفات ، كما يتحصن الهارب من العدو بالحصن الذي ينجيه منه. وفيه إثبات فعل العبد وبه ، وأن الشر مضاف إلى فعله هو، لا إلى ربه ، فقال: " أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما صنَعْتُ". فالشر إنما هو من العبد، وأما الرب فله الأسماء الحسنى ، وكل أوصافه صفات كمال ، وكل أفعاله حكمة ومصلحة. ويؤيد هذا قوله عليه السلام : " والشر ليس إليك" في الحديث الذي رواه مسلم في دعاء الاستفتاح.
ثم قال: " أَبوءُ لَكَ بِنِعْمتِكَ علَيَ " أي أعترف بأمر كذا ، أي أقر به، أي فأنا معترف لك بإنعامك علي، وإني أنا المذنب، فمنك الإحسان ومني الإساءة. فأنا أحمدك على نعمتك، وأنت أهل لأن تحمد وأستغفرك لذنوبي.
ومتى شهد العبد هذين الأمرين استقامت له العبودية، وترقى في درجات المعرفة والإيمان، وتصاغرت إليه نفسه، وتواضع لربه، وهذا هو كمال العبودية، وبه يبرأ من العجب والكبر وزينة العمل. وعلى هذا –أعني الاعتراف بالتقصير وظلم النفس- درج الأنبياء والصالحون فهذا النبي يونس عليه السلام نادى ربه وهو في ظلمات ثلاث ظلمة البحر وظلمة الليل وظلمة بطن الحوت فقال: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ وهذا موسى كليم الرحمن قال الله عنه: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ وغيرها كثير.
لكن مما ينبغي أن يعلم هنا أن المراد بالاستغفار ما اقترن به ترك الإصرار، فهو حينئذ يعد توبة نصوحا تجب ما قبلها، أما إن قال المرء بلسانه: أستغفر الله، وهو غير مقلع عن ذنب، فهو داعِ لله بالمغفرة، كما يقول: اللهم اغفر لي، وهذا طلب من الله المغفرة ودعاء بها، فيكون حكمه حكم سائر الدعاء لله، ويرجى له الإجابة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:-
أيها الناس: اشتمل هذا الدعاء العظيم المعاني الكثيرة الغزيرة التي يَملؤها الاعتراف والذل والانكسار بين يدي الله تعالى، وجمع بين مقامين عظيمين في ديننا وهما مقام التوحيد ومقام الاستغفار. فلهذا استحقّ هذا الدعاء أن يكون كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون "سيّد الاستغفار".
وفي ختام هذا الدعاء العظيم -أيها الإخوة- بيّن النبي صلى الله عليه وسلم فضل مَنْ قاله في الصباح، أو قاله في المساء موقناً بما فيه من المعاني العظيمة موقناً بوعد الله تعالى، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "منْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِناً بِهَا، فَمـاتَ مِنْ يوْمِهِ قَبْل أَنْ يُمْسِيَ، فَهُو مِنْ أَهْلِ الجنَّةِ، ومَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وهُو مُوقِنٌ بها فَمَاتَ قَبل أَنْ يُصْبِح ، فهُو مِنْ أَهْلِ الجنَّةِ ".
أيها المسلمون: حافظوا على هذا الذكر العظيم في الصباح والمساء على وجه الخصوص، واعتنوا به في سائر أوقاتكم، واستشعروا تلك الْمعاني الكثيرة في هذه الكلمات القليلة، وعلّموه أهلكم وأبنائكم وأقاربكم، فالدال على الخير كفاعله.
اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت، خلقتنا ونحن عبيدك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، نبوء لك بنعمتك علينا، ونبوء بذنوبنا، فاغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
اللهم اغفر لنا ذنبنا كله ؛ دِقَّه وجلَّه ، أوَّله وآخره ، علانيته وسره ، اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا ، وما أسررنا وما أعلنَّا ، وما أسرفنا ، وما أنت أعلم به منا ، أنت المقدِّم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ، اللهم اغفر ذنوب المذنبين ، وتب على التائبين ، اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا وثبِّت حجتنا واهد قلوبنا وسدد ألسنتنا واسلل سخيمة قلوبنا ، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم .
اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز.
اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا واستقرارنا وجماعتنا يا أرحم الراحمين .
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك التواب الرحيم، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129 |