تطييب قلب غير الحاج بأعمال تعدل أجر الحاج
مع التحذير من التحايل على نظام الحج
27/11/1436هـ
إِنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) (( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ))، أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
أيها المسلمون : ففي هذه الأيام تخفق قلوب المحبين وتهفو نفوسهم شوقاً لحج بيت الله الحرام ، وكيف لا تشتاق النفوس للحج ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول : « مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ ، وَلَمْ يَفْسُقْ ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ » أخرجه البخاري ، ومسلم بلفظ مقارب ، ويقول عليه الصلاة والسلام : « الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ » متفق عليه .
لكن فضل الله على عباده المؤمنين عظيم ، ورحمته واسعة ، فإنه جل جلاله يعلم أن الحجاج كل عام قليلون بالنسبة لعدد المسلمين ، لذا تفضل تعالى على عباده بأن فتح لهم أبواب أعمال صالحة ، مَنْ عملها كان له كأجر الحاج .
فيا عباد الله : من حالت دونه العوائق للوصول إلى البيت ، فباب الوصول إلى مرضاة ربِّ البيت مفتوح ((فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ)) مفتوح في الليل والنهار ، ((وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)) .
أيها الناس : من الأعمال الصالحة التي تُبَلِّغُ عاملها أجر الحجاج وربما تجعله يسبقهم بإقبال قلبه على الله :
نيَّة الحج الصادقة الخالصة الجازمة ، التي لا يمنعك من إنفاذها إلا العوائق التي ليس بيدك حلها ؛ فمن كانت هذه حال نيته فليبشر بالثواب العظيم المماثل لثواب الحاج ، ألم يقل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما دَنَا مِنَ المَدِينَةِ وهو راَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ : « إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا ، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا ، وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ »، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ؟ قَالَ : « وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ » متفق عليه ، فالله ملك الحمد على فضلك
يا من حبسك العذر عن حج بيت الله الحرام ، املأ قلبك رجاءً لله المنان أن ينيلك بنيتك الصادقة مثل أجر الحجاج ، عندما ينزلون منى وعرفات ومزدلفة ، ويطوفون بالبيت وبين الصفا والمروة ، كأنما أنت معهم .
ومن الأعمال التي تعدل أجر الحاج : الصلاة المكتوبة في المسجد مع المشي إليها على طهارة : فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنة ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : « مَنْ مَشَى إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ ، كان لَهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ الْمُحْرِمِ » ... الحديث ، قَالَ أَبُو أُمَامَةَ : «الْغُدُوُّ وَالرَّوَاحُ إِلَى هَذِهِ الْمَسَاجِدِ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ ». أخرجه أحمد وأبو داوود وحسنه الألباني وصححه الأرناؤوط .
وهذا الحديث يدل على الفضل العظيم لهذه الصلوات الخمس المفروضة وكثرة ثوابها إذا أُقيمت في المسجد .
ولو عقدنا مقارنة بين حال المصلين وحال حجاج بيت الله الحرام لوجدنا أوجه شبه كثيرة :
ـــ فالمصلون خرجوا قاصدين بيتا من بيوت الله لعبادته بركن من أركان الإسلام ، والحجاج خرجوا قاصدين بيت الله الحرام لعبادته بركن من أركان الإسلام ...
ـــ والمصلون خرجوا متطهرين ماشين إلى بيت الله بسكينة ووقار ذاكرين لله بذكر المشي إلى المسجد ، والحجاج خرجوا محرمين مغتسلين ملبين ذاكرين الله ...
ـــ والمصلون يتقربون إلى الله بتحية المسجد صلاة ركعتين ، والحجاج يحيون بيت الله الحرام بالطواف حول الكعبة المشرفة ...
ـــ والمصلون في صلاتهم يتقربون إلى الله بالتكبير والتسبيح والتحميد والتشهد والدعاء والقيام والركوع والسجود وإقبال القلب على الله والوقوف بين يديه ، وكذلك الحجاج ...
ـــ والمصلون يعقبون صلاتهم بالاستغفار والذكر وكذلك الحجاج مأمورون بذلك ...
ومن الأعمال التي هي أفضل من الحج المبرور : بر الوالدين ، فبر الوالدين أفضل من الجهاد في سبيل الله كما في أحاديث كثيرة ، والجهاد في سبيل الله أفضل من الحج المبرور كما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ: (( «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ». قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : « الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ » قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : «حَجٌّ مَبْرُورٌ» )) رواه مسلم . فبر الوالدين أفضل من الحج المبرور ، بر الوالدين ميدان من ميادين جهاد النفس على ما يرضي الله فـ « رضا الله في رضا الوالد وسخط الله في سخط الوالد » .
ومن الأعمال الصالحة التي لها مثل أجر الحج : صلاة الفجر في جماعة والجلوس بعدها لذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلاة ركعتين ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ صَلَّى الفجر في جماعة ، ثم قَعَدَ يذكرُ الله ، حتى تطلُع الشمس ، ثم صلى ركعتين ، كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة » أخرجه الترمذي وصححه الألباني .
فجاهدوا أنفسكم على حضور صلاة الفجر مع الجماعة ، والجلوس للذكر حتى الشروق ولو لبعض الأيام .
ومن الأعمال : الذهاب إلى المساجد للتعلم أو التعليم ، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ : « مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يَعْلَمَهُ ، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامًّا حِجَّتُهُ » أخرجه الطبراني وقال الألباني : حسن صحيح .
فهذا الحديث يدل على فضل طلب العلم في المساجد ، لكنَّ أهل زماننا في عصر إعلام الفضاء وعصر الأجهزة الذكية ، زهدوا في مجالس العلم في المساجد استغناء بأجهزتهم وقنواتهم ، ولا سواء ، لا سواء بين بركة طلب العلم في المساجد وبين أخذه من هذه الأجهزة ، وفي كل خير ، فليكن هذا الفضل حافزا لك يا عبد الله على ارتياد المساجد للتعلم لتنال هذا الفضل وغيره من فضائل طلب العلم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وبسنة سيد المرسلين ، ونفعني الله وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر الحكيم ، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الْحمدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ الرّحمنِ الرّحيمِ مَالكِّ يَومَ الدِّينِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحق المبين، وأشهد أنَّ محمدًا خاتم النبيّين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين . أما بعد :
أيها المسلمون : مما عوض الله به عباده المؤمنين غير القادرين على الحج ، عن حج البيت الحرام : العمل الصالح بأنواعه في العشر الأولى من ذي الحجة ، فالعمل الصالح فيها أفضل من الجهاد في سبيل الله ، والجهاد أفضل من الحج المبرور .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عشر ذي الحجة : « مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ » ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فقال : « وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، ما أجله من فضل ، مغبون من ضاع عليه .
فيا أيها المحبون : اعزموا على الاجتهاد في العشر المباركة بالصالحات بشتى أنواعها من صلاةٍ وصيامٍ وصدقةٍ وذكرٍ واستغفارٍ وحمدٍ وتكبيرٍ وبرٍّ وصلةٍ وإحسان ، ((وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)) فقد تسبقون الحجاج بإقبالكم على الله ، فربكم ينظر إلى القلوب والأعمال .
أيها الناس : فيما مضى من الأعمال الصالحة غنية لطالب الجنة ، فإياكم أن تسلكوا سبيل الحيل للوصول إلى بيت الله الحرام ، فمن لم يستطع الحج وفق النظام فليقعد متقياً ربه راجياً فضله وثوابه .
فالحيل أمرها خطير ، فإن كانت الحيلة للوصول إلى مكة بفعل محرم كالإحرام من الميقات دون خلع الثياب أو بترك واجب كعدم الإحرام من الميقات ، فإن ذلك من الفسوق والخروج عن طاعة الله وطاعة رسول ، وهو مضاد لبر الحج الذي يطلبه كل حاج ، فقد قال الله تعالى : ((فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ )) وقال صلى الله عليه وسلم : « مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ ، وَلَمْ يَفْسُقْ ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ » .
فيا عباد الله : إذا كان ربنا قد ابتلى غيرنا بالبعد عن البيت الحرام ومشقة الوصول إليه ، فإننا قد ابتلينا بالقرب منه مع وجود العقبات التي ليس لنا قدرة على تجاوزها ، فلنتق الله ولنمتثل ولنلتزم تنظيم ولي الأمر الذي ما سن إلا مراعاة للمصلحة العليا للمسلمين .
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم حببّ إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا فى ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، وﻻ مبلغ علمنا، وﻻ تسلط علينا من ﻻ يرحمنا، اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت، خلقتنا ونحن عبيدك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، نبوء لك بنعمتك علينا، ونبوء بذنوبنا، فاغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك شاكرين.. لك ذاكرين.. لك راغبين.. لك راهبين. اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، ويسر أمورنا، وطهر قلوبنا، واسلل سخيمة قلوبنا، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة والنجاة من النار، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا وجماعتنا واستقرارنا ، اللهم احفظ بلادنا من شر الأشر وكيد الفجار، اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا ، اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا ، اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وبصّرهم بأعدائهم والمتربصين بهم يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم يسر للحجيج حجهم, واحفظهم من كل مكروه، وردهم إلى أهلهم وأوطانهم سالمين غانمين، اللهم اجعل حجهم مبرورا، وسعيهم مشكورا، وذنبهم مغفورا يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب الدعوات.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة عن موسم الحج وعشر ذي الحجة تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=130
|