مُستريح ومُستَراح منه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْْ اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }.{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا }.{ يَا أَيُّهَا الَّذِين ءَامَنُواْ اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }. أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. أيها الناس:
الموت حتم لازم، لا مهرب منه لكل حيّ من المخلوقات، فكل مَنْ عليها فانٍ، ولو نجا أحد من الموت لنجا منه خيرة الله من خلقه محمد صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } [الزمر:30]، { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ ٱلْخَـٰلِدُونَ } [الأنبياء:34].
والمؤمن بالله يؤمن أن للموت وقتًا يأتي فيه، فلا يستطيع أحد أن يتجاوز الأجل الذي ضربه الله له، وقد قدر الله آجال العباد، وجرى بذلك القلم في اللوح المحفوظ، { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَـٰبًا مُّؤَجَّلا }[آل عمران:145]، روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( قَدْ سَأَلْتِ اللهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ، أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ، أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ، كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ )).
إن المؤمن لا يعيش في خوف من الموت ولا جزع من مرارة كأسه، فهو زائر لا بد من لقائه، وقادم لا ريب فيه، والخوف لا يَرُدُّه، والجَزَعُ لا يثنيه، { قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَـٰقِيكُمْ }[الجمعة8]، ويهوِّن الموت على المؤمن أنه سبيل الناس قبله من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، فلا عليه إذا اقتفى أثرهم وسار في دربهم.
أيها المؤمن: أخرج البخاري ومسلم رحمهما الله عن أبي قتادة بن رِبْعِيٍّ الأنصاري رضي الله عنه أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة فقال: ((مُستريح ومُستَراح منه))، قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه؟ قال: ((العبد المؤمن يستريح من أذى الدنيا ونصَبها إلى رحمة الله عز وجل، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب)).
إنه حديث يصوّر أصناف الراحلين من هذه الدار إلى دار القرار، فهما صنفان: إما مستريح أو مستراح منه. فمن المستريح؟ وممّ يستريح؟ ولماذا يستريح؟ ومن المستَراح منه؟ أسئلة تتوارد على الخاطر. ويبقى السؤال الأهمّ: من أيّ الفريقين أنا وأنت؟
أيها المسلمون، المستريح بعد الموت هو من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولاً. المستريح هو من تخلّص من حقوق العباد واستعدّ ليوم المعاد. المستريح هو من يرحل من هذه الدار وقد كان في دنياه من عُمّار بيت الله، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. المستريح من عباد الله هو من يرحل من هذه الدار بعد أن أسّس بيتًا قائمًا على التقوى، وخلّف وراءه صدقة جارية أو علمًا ينتفع به أو ولدًا صالحًا يدعو له. المستريح هو من دعا إلى الله وجاهد في سبيل الله وكان من خير الناس للناس، فعاش سعيدًا ومات حميدًا. المستريح هو من حفظ السمع والبصر والفؤاد عن كل ما يغضب رب العباد. المستريح بعد الموت هو من عاش يحمل هم الدين، ووقف في وجه الفساد والمفسدين حتى أتاه اليقين.
المستريح هو ذلك الشاب الذي نشأ في طاعة الله، يتربى في بيت الله ويحفظ كتاب الله، ويودع الدنيا على هذه الحال. المستريح بعد الممات هي تلك المرأة الصالحة التي تمسكت بحجابها واعتزت بدينها وحافظت على عفافها وماتت على ذلك. المستريح - يا عباد الله - هو باختصار من يعمل بأوامر الله على نور من الله يرجو ثواب الله، ومَن يتقِي محارم الله على نور من الله ويخشى عقاب الله. فهل أنت -يا عبد الله - كذلك؟!.
إن المؤمن بالموت مستريح؛ لأنه لا يرى في هذه الحياة إلا أنها زمن للابتلاء والفتن، {ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }[الملك:2]، هي دارٌ حلالها حِساب وحرامها عذاب، إنها دار النصَب والوصب والشقاء والكِبَر. إنه مستريح لأنه يفارق دار الهموم والأحزان، فقر ومرض، موت عزيز، فراق حبيب، خوف وجوع، ما أضحكت إلا وأبكت، وما جمعت إلا وفرقت.
المؤمن بالموت مستريح، يفارق دنيا عرف حقيقتها المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال: ((ما لي وللدنيا؟! وما للدنيا ولي؟! والذي نفسي بيده، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظلّ تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها))، وقال: ((لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد :-
أيها المسلمون، أما المستراح منهم فهم أصناف شتى، وهم سبب كل بلاء وشرارة كل مصيبة.
هم المترفون الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، قال تعالى: { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } [الإسراء:116]، هم الظالمون لغيرهم ولأنفسهم، هم المعطِّلون لشرع الله المحاربون لدين الله المضادون لأولياء الله، هم الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا من دعاة تحرير المرأة ومن مروّجي الرذيلة ومحاربي الفضيلة، هم المجرمون الذين يعيثون في الأرض فسادًا قتلاً للآمنين وترويعًا للمؤمنين، هم تجار المخدرات ومروجو المسكرات والمفرقون للأسر والجماعات، هم الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، هم المضيعون لأنفسهم بالتجرؤ على حدود الله، والمضيعون لمن تحت أيديهم بتأمين وسائل الفساد والإفساد لهم وإهمال تربيتهم.
أولئك وأمثالهم تستريح منهم البلاد والعباد والشجر والدواب، فما نزل بلاء إلا بذنب، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، وإن الطيور في أوكارها والدواب في جحورها لتلعن عصاة بني آدم وتقول: إنما أوتينا من قبلكم. قال تعالى: { وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [الشورى:30]، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـٰهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }[الأعراف:96].
حينما يفرح المؤمن بهلاك ظالم فهو لا ينسى أن ذلك نعمة أحدثها الله لعباده، وحق النعمة حمد الله وشكره { أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر باليوم الذي نجى فيه موسى وقومه، وأغرق فيه فرعون وقومه صام ذلك اليوم يوم عاشوراء وأمر بصيامه .
فالفرح بموت الظالمين من هدي النبي صلى الله عليه وسلم لانقطاع شره، وأمل الفرج من بعدهم، مشى على هذا الهدي السلف الصالح حينما تنتهي إليهم أخبار هلاك الظالمين.
أيها المسلمون، كل سيمضي من هذه الدار، فميت يعد مستريحًا، وآخر مُستراح منه. وانظر لنفسك ماذا أنت تختار؟ أتحب أن تستريح أم يُستراح منك؟ أتحب أن يقال: فلان فقيد، أم يقال: فلان موته عيد؟ أتحب أن يبكيك من يعرفك ومن لا يعرفك، أم تودُّ أن يستكثر حتى محبوك دمعة على فراقك؟
هذه أسئلة، والإجابة تملكها أنت، والموعد يوم الجنائز، والمقياس يوم تبلى السرائر، وما ربك بظلام للعبيد.
اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا يا أرحم الراحمين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم حببّ إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصارا لدينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات انك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129 |