ذكرى لمن أساء الظن بربه
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
أما بعد:
فيا أيها الناس: أوصيكم - ونفسي - بتقوى الله - عز وجل - فإن تقوى الله خلفٌ من كل شيء، وليس من تقوى الله خلفٌ ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128].
أيها المسلمون:
الصراع في هذه الدنيا سجال بين الحق والباطل، بين أهل الخير وأهل الشر؛ بين أهل الإِسلام وأصحاب الكفر؛ وفي ذلك من الحكم البالغة ما لا يعلمه إلا الله - عز وجل-، ففيها من تمحيص المؤمنين، ورفع الدرجات، وتحصيل الأجور؛ وإقامة الحجة والخزي والعار على الكافرين.
عباد الله: حسن الظن بالله وما أدراك ما حسن الظن بالله ؟!!
هي السعادة وهي الفوز وهي النجاة "أصلح عملك وأحسن الظن بربك"قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: أنا عند ظنّ عبدي بي» متفق عليه.ويقول «إنّ حسن الظّنّ بالله تعالى من حسن العبادة» رواه ابو داود والترمذي بإسناد حسن .
وغيرها كثير تؤكد على حسن الظن بالله فيما يقدر أو يكتب واعلموا عباد الله أنه على الضد من هذا ما ابتلي به كثير من المسلمين من سوء الظن بخالقهم ومالكهم في جميع شئونهم
وسوء الظن بالله قد يكون كفرًا ينافي التوحيد بالكلية كظن الكفار والمنافقين في مثل قوله "يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية"، فقد زعموا أن الله لا ينصر رسول الله r ، وأن ما أصابهم لم يكن بقدر وحكمة وهذا ظن سوء بالله، مُكذِّب لقوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات: 173] وقد أظهر الله دين الإِسلام على جميع الأديان، ودخل الناس في دين الله أفواجًا.وقد يديل الله الباطل أحيانًا على الحقَّ؛ تمحيصًا ورفعة لأهل الحق، وغرورًا لأهل الباطل، ثم تكون العاقبة للمتقين.
وقد يكون سوء الظن بالله من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد، كظن بعض عصاة الموحدين: إذا رأى رجلاً صالحًا مريضًا، قال: فلان ما يستاهل.أو إذا رأى فاسقًا غنيًا، قال: هذا ما يستحق هذه الأموال!أو إذا أصابه بلاء في نفسه أو ماله ظن أنه غير مُستحق له!فهذا كله من الاعتراض على الله، إذ هو - سبحانه - أعلم بأحوال عباده، وله الحكمة البالغة فيما يقتضيه ويقدره على عباده من صحة، ومرض، وغنى وفقر، وغير ذلك ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23].
أيها المؤمن : إن الواجب عليك أن تحسن الظن بالله في جميع ما يقضيه ويقدره: كوعده بنصر المؤمنين، وإجابة دعاء الداعين، كما عليه أن يراجع نفسه، فإن كان قد وقع في سوء ظن بربه فعليه المبادرة إلى التوبة، وأن لا يظن بربه إلا الظن الحسن.
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا وليتب إلى الله ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء.
ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتًا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمُستقل ومُتسكثر وفتش نفسك: هل أنت سالم؟
لأن الله وعد ورسوله أن ينصره، ويظهر أمره ودينه على الدين كله، فمن ظن أن دينه سيضمحل ولا يظهر على الدين كله فقد ظن به ظن السوء، ومن قنط من رحمته، وأيس من روحه، أو جوز عليه أن يعذب أولياءه على إحسانهم، ويسوي بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يترك خلقه سدى، أو أنه لا يجمعهم بعد الموت للثواب والعقاب فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح، وأنه يعاقبه بما لا صنع له فيه، وأنه يحسن منه كل شيء، حتى يعذب من أفنى عمره في طاعته فيخلده في الجحيم، وينعم من استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه، فيرفعه إلى أعلى عليين فقد ظن به ظن السوء .
فالعاقل اللبيبب يظن السوء بنفسه التي هو مأوى كل سيئ، ومتبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فإنها أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام والحمد التام، والحكمة التامة المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله؛ فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأسماؤه كلها حسنى، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل.
قال ابن الجوزي وكأنه يحكي عن عصرنا قال : الواحد من العوام إذا رأى مراكب مقلدة بالذهب والفضة، ودارًا مشيدة مملوءة بالخدم والزينة، قال: انظروا ما أعطاهم الله مع سوء أفعالهم، ولا يزال يلعنهم ويذم مُعطيهم، حتى يقول: فلان يُصلي الجماعات والجمع، ولا يؤذي الذر، ويظهر الإِعجاب كأنه ينطق: لو كانت الشرائع حقًا لكان الأمر بخلاف ما ترى, وكان الصالح غنيًا والفاسق فقيرًا.
وقال صدقة بن الحسين الحداد - وكان فقيهًا وعليه جرب – نوع من المرض معروف - ، فقال: ينبغي أن يكون هذا على جمل لا عليّ.وكثير من العوام إذا رأى رجلاً صالحًا مؤذى، قالوا: هذا ما يستحق، أو هذا ابن حلال! كأن الله ظلمه أو يذمه كأنه لا يستحق، قدحًا في القدر، وارتفاعًا على الخالق - جل وعلا - في التحكم عليه، حتى كأن المعترض قد ارتفع أن يكون شريكًا لله - تعالى - في ملكه، والله - سبحانه - هو العليم الحكيم، يضع الأشياء مواضعها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد :-
فاعلموا - وفقني الله وإياكم لكل خير- أن سوء الظن كبيرة من كبائر الذنوب الباطنة والقلبية وهذه الكبيرة وغيرها ممّا يجب على المكلّف معرفتها ليعالج زوالها لأنّ من كان في قلبه مرض منها لم يلق الله- والعياذ بالله- بقلب سليم، وهذه الكبائر يذمّ العبد عليها أعظم ممّا يذمّ على الزّنا والسّرقة وشرب الخمر ونحوها من كبائر البدن وذلك لعظم مفسدتها
إن ظن السوء ينافي الإِيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا؛ لأن الله - تعالى - قال عن أسمائه: ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180]، فإذا ظن بالله ظن السوء؛ لم تكن الأسماء حسنى، وقال سبحانه وتعالى في صفاته العلا: ﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ﴾ [النحل: 60] وإذا ظن بالله ظن السوء، لم يكن له المثل الأعلى.
وأخيرا فمضار (سوء الظن) كثيرة منها أنه يؤدّي إلى غضب الله وسخطه.وأنه خلق من أخلاق المنافقين. وأنه يورث الذّلّ والهوان على الله ثمّ على النّاس. والطريق إلى السلامة من سوء الظن بالله: هو معرفة الله بأسمائه وصفاته ولا سيما من أسمائه: العليم، الحكيم، الحميد، القدير، ومعرفة وعده الصادق.
فاعرفوا لربكم قدره، وعظموه أمره، واجتنبوا نهيه، تكن لكم الجنة دار مستقر ورحمة، بمنه وجوده ورحمته.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم حببّ إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصارا لدينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات انك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|