الدعاء للعامة وحِكم تأخر الإجابة
إن الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً أما بعد:
عباد الله:
اتقوا الله تعالى وراقبوه ، وأكثروا من دُعائه وأمّلوه ؛ واعلموا أن الدعاء أعظم العبادة وأجلُّها ، وأرفعها شأناً وأعلاها مقاما ، فهو أكرم العبادات وأحبُّها إلى الله رب العالمين ؛ لما فيه من كمال التذلل وعظيم الخضوع لله جل وعلا ، والافتقار بين يديه والطمع فيما عنده سبحانه .
= أيها المؤمنون : إنَّ من الأمور المهمَّة التي ينبغي أن يلحظها المسلمُ في دعائه ، بل قد عدَّه بعضُ أهل العلم في جملة آداب الدعاء: العنايةَ بالدعاء للمسلمين بالتوفيق والمغفرة والرحمة والإعانة على الخير ؛ إذ الجميع مشتركون في الحاجة إلى ذلك .
وما من ريبٍ أنَّ كلَّ مسلمٍ يحبُّ من إخوانِه المسلمين أن يدعوا له، ويُسَرُّ بذلك، ويتمنى زيادته؛ والمسلمُ يُحبُّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه من الخير، فكما أنَّه يحبُّ ذلك لنفسه فينبغي أن يكون هو معتنياً بذلك تجاه إخوانه المسلمين بحب الخير لهم، وبالدعاء والاستغفار لهم ونحو ذلك؛ ومَن كان هذا شأنُه مع إخوانه المسلمين قيَّض الله له من إخوانه مَن يدعون له ويستغفرون له؛ والجزاء من جنس العمل.
وإذا نظر المسلمُ إلى أحوال إخوانه المسلمين وجدها أحوالاً متفاوتة، وكلُّ واحد منهم بحاجة إلى دعاءِ إخوانه ؛ فذاك مريضٌ يعاني من المرض ويُكابد آلامَه، ولربما يكون قد أمضى في مرضه الأسابيعَ العديدة أو الشهورَ أو السنين ، وهو لا يغمض له جفن، ولا يهدأ له بالٌ ، في آلامٍ متعبة وأوجاع مؤلمة - فهو بحاجة إلى دعاء إخوانه المسلمين له بأن يشفي الله مرضَه، ويزيل بأسه ، ويُلبسَه ثوبَ الصحة والعافية..
وروى أبو داود والترمذي وحسّنه عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَن عاد مريضاً لَم يحضر أجلُه فقال عنده سبعَ مرَّات: أسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يشفيك إلاَّ عافاه الله "..
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى المريض يدعو له قال: اللَّهمَّ ربَّ الناس أذهب الباس، واشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلاَّ شفاؤك، شفاءً لا يغادر سُقْماً ".
= عباد الله : ومِن المسلمين مَن أرّقهم الفقرُ، وأقعدتهم الحاجةُ، فمنهم مَن قد لا يجد لباساً يواريه، أو مسكناً يؤويه، أو طعاماً يُشبعه ويغذيه ، بل منهم مَن أدركه حتفُه في مجاعات مهلكة، وقَحْطٍ مفجع - فهم بحاجة إلى دعوات صادقة بأن يغني الله فقيرَهم، ويُشبعَ جائعَهم، ويكسو عاريَهم، ويَسُدَّ حاجتَهم، ويكشفَ فاقتَهم..
= ومن المسلمين مَن يعيشون في بلدانهم في بلاء شديد ، فتنٍ مؤرقة، وحروبٍ مهلكة ، قد تسلَّط عليهم عدوُّهم، فأُريقت فيهم الدماء، ورُمِّلت النساء، ويُتِّمَ الأطفالُ، ونُهبت الأموالُ - فهم بحاجة إلى الدعاء بأن يُنفِّسَ اللهُ كربَهم، ويفرج هَمَّهم، ويكبِتَ عدوَّهم، وأن يولّي عليهم صالحهم ، وينشرَ الأمنَ والاطمئنانَ بينهم ..
== ومن المسلمين: رجالُ أمنٍ مجاهدون، وعلى حدودِنا مرابطون، يخافون لنأمن، ويسهرون لننام، ويتعبون لنرتاح، ويضحّون براحتهم بل وبأرواحهم في سبيل الله، قد هجروا أهليهم وأولادهم وأحبابهم وفارقوهم ليحْموا دولة التوحيد وينصروا أهل السنة؛ فهم واللهِ المجاهدون حقاً, جهادٌ على التوحيد والسنة, لا على التكفير والجهل والبدعة؛ جهادٌ لا غدر فيه ولا ظلم ولا عدوان، ولا افتيات على ولاة الأمر؛ جهادٌ لنصرة المظلومين, وردِّ كيد المفسدين - فهم بحاجة إلى دعوات صادقة بأن الله يحفظهم، وينصرهم، ويسدّد رمْيهم؛ فإن الدعاء: حِصنٌ وسلاح، ويفعل بالأعداء: ما لا تفعله السيوف والرماح...
فاللّهم اجزهم عنّا خير الجزاء، واكتب لهم أجر المجاهدين الشهداء، وانصرهم على سائر الأعداء.
= ومن المسلمين - عباد الله - : مَن اخترمته المنيَّةُ وأدركه الموتُ، ونساه الوالد والولد والزوج ، فهو في قبره محتَجزٌ، وبأعماله مرتَهن، وبما قدَّمت يداه مجزيٌّ - فهو بحاجة إلى دعاء إخوانه المسلمين بأن يُقيلَ اللهُ عثرتَه، ويغفرَ زلَّتَه، ويتجاوزَ عن خطيئته ، قال الله تعالى: ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) ؛ وهكذا تكون الأُخوّة بين المؤمنين ، والتي من فروعها أن يستغفر بعضُهم لبعض وأن يحبَّ بعضُهم بعضاً ..
روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دعوةُ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ "
وروى الطبراني بإسناد حسن عن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَن استغفر للمؤمنين والمؤمنات، كتب الله له بكلِّ مؤمنٍ ومؤمنَة حسنةً " ؛ فتأمَّل - رحِمكَ الله - عِظمَ هذا الدعاء ؛ فالمسلمُ يكون له حسنة بكلِّ واحد من المؤمنين والمؤمنات المتقدِّمين منهم والمتأخرين ، فهي حسنات كثيرات لا يُحصيها إلاَّ الله جلَّ وعلا ، ولهذا كان هذا الدعاءُ العظيم في جملة أدعية النبيِّين صلوات الله وسلامه عليهم .
فاللهم يا الله، يا حي يا قيوم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم وفرّج همّ المهمومين من المؤمنين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وانجِ عبادك المستضعفين في كل مكان، وانصرهم على من بغى عليهم يا ذا الجلال والإكرام.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الحكيمِ في خَلقه ورَزْقه وتدبيره ، الحميدِ في عطائه ومنعه وجميع تقديره ، إن أعطى فبفضل ورحمة ، وإن منع فبعدل وحكمة ؛ لا يُسأل عما يفعلُ وهم يُسألون ؛ وأشهد أنْ لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ومختاره ومصطفاه ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه . أما بعد ؛
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وراقبوه, وتفكّروا في بديع حُكمِه وحِكَمِه ؛ وأنه تعالى قضى في خلقه أقداراً هي عين الحكمة ، وفيها عظيم العدل والرحمة ..
ومن تقديره سبحانه : حصولُ البلاء على المؤمن بأن يدعو لنفسه أو لغيره فلا يُستجاب له ، فيكرر الدعاء ويبالغ فيه ، وتطول المدة ، فلا يرى أثرًا للإجابة.. ومن هنا يجد الشيطان فرصته، فيبدأ بالوسوسة له، وإساءة ظنه بربه، وإيقاعه بالاعتراض على حكمته...
فينبغي لمن وقعت له هذه الحال ألا يختلج في قلبه شيءٌ مما يلقيه الشيطان؛ ذلك أن تأخر الإجابة يحمل في طيّاته حِكمًا باهرةً، وأسرارًا بديعة ، لو تدبّرها الداعي لما دار في خَلَدِه تضجّر من تأخر الإجابة..
فمن تلك الحِكم والأسرار، والتي يجملُ بالداعي أن يتدبرها ويستحضرها :
أن تأخر الإجابة من البلاء الذي يحتاج إلى صبر: قال تعالى: ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) .. والعبد المبتلى الصابر محبوب عند الله - فهو سبحانه إذا أحب قومًا ابتلاهم..
= ومن الحِكم والأسرار في تأخر إجابة الدعاء : أنه قد يكون في تحقّق المطلوب زيادة في الشر: فربما تحقق للداعي مطلوبُه، وأجيب له سؤله، فكان ذلك سببًا في زيادةِ إثم ، أو تأخُّرٍ عن مرتبة ، أو وقوعٍ في عُجب..
وهذا سر بديع ، ذلك أن الله تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، فهو أعلم بمصالح عباده منهم، وأرحم بهم من أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم - واختيار الله للعبد خير من اختيار العبد لنفسه ؛ قال تعالى: ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )..
= ومن الحِكم والأسرار : أن تأخر الإجابة سبب لتفقُّد العبد لنفسه وحاله مع ربه: فقد يكون امتناع الإجابة لآفة في الداعي؛ فربما كان في مطعومه شُبهة ، أو في قلبه وقت الدعاء غفلة، أو كان متلبسًا بذنوب أسخطت عليه الربّ فسدَّ عنه كلَ طرُق الإجابة...
= ومن الحِكم والأسرار في تأخر إجابة الدعاء : أنه قد تكون الدعوة مستجابة دون علم الداعي : فإن ثمرة الدعاء الصادق مضمونة – بإذن الله - ، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من مسلم يدعو ليس بإثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يُعجّل له دعوته، وإما أن يدَّخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها، قالوا: يا رسول الله، إذًا نُكثر؟ قال: اللهُ أكثر ) ..
فيا عباد الله أحسنوا الظنّ بربكم : تجدوا ما يسرُّكم ، وأكثروا الدعاء والإستغفار لأنفسكم ولغيركم : فالله أكثر - أي: أكثر إجابة من دعائكم ، والله أكثر ثواباً وأكبر عطاءً مما في نفوسكم ..
= فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كُنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله.. اللهم ربنا أحينا على الإسلام والسُنة وأمتنا عليهما يا رب العالمين، اللهم أعز السنة أهلها في كل مكان، واجمع كلمتهم على الحق والهدى وألّف بين قلوبهم ووحد صفوفهم وارزقهم العمل بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.