اليوم الآخـر
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الإيمان يقوم على ستة أركان ( الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره )، ومن تمام الإيمان بالله ورسله وكتبه: الإيمانُ باليوم الآخر، وهو كلُّ ما جاء به الكتاب والسنّة ممَّا يكون بعد الموت من أحوال الموت والبرزخ والقبر، والقيامة والجنة والنار، ومتعلقات ذلك كلِّه داخل بالإيمان باليوم الآخر.
وقد تواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث المتنوعة في فتنة القبر، وعذابه ونعيمه، وأنَّ الميت تعاد إليه روحه في قبره فيُسأل عن ربه ودينه ونبيه، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول المؤمن: الله ربي، ومحمد نبيي، والإسلام ديني، فيفسح له في قبره وينوّر له فيه، ويُنَعَّمُ فيه إلى يوم القيامة، كما وُصِفَ ذلك وفُصِّلَ في السنّة.
وأما الكافر والمنافق فيضله الله عن الصواب لظلمه وكفره، فيضيق عليه قبره، ولا يزال يعذب إلى أن تقوم الساعة , ومن المذنبين من يعذّب في القبر مدة بقدر ذنوبه، ثم يرفع عنه العذاب، ومنهم من يرفع عنه العذاب بشفاعة أو دعاء أو صدقة أو نحو ذلك.
ثم إذا تكامل الآدميون وماتوا جميعاً أمر تعالى إسرافيل بالنفخ في الصور، فيخرجون من قبورهم إلى موقف يوم القيامة، حفاة عراة غرلاً أي غير مختونين الرجال والنساء ، مهطعين إلى الداع كأنَّهم إلى نصب يوفضون، يوم يحشر المتقون إلى الرحمن وفداً، ويساق المجرمون إلى جهنم ورداً، فيقفون موقفاً عظيماً لا تتصور العقول عظمه وفظاعته وهوله، ولكن الله يخففه على المؤمنين.
ويسيل العرق منهم فيكونون على قدر أعمالهم، منهم من يأخذه إلى كعبيه، وإلى ركبتيه، وإلى حقويه، وإلى حَلقه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، وتدنوا الشمس منهم فتكون على قدر ميل منهم، ويصيب الخلق من الهمِّ والكرب ما الله به عليم، فيفزعون إلى من يشفع لهم إلى ربهم ليريحهم من هذا الموقف، ويفصل بينهم، فيأتون آدم، ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، وكلُّهم يعتذر ويدفعهم إلى من بعده , فإذا جاءوا لعيسى صلى الله عليه وسلم قال: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم عبدٍ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيجيب طِلبتهم ويلبي دعوتهم، ثم يأتي إلى تحت العرش فيسجد لله سجدة عظيمة، يفتح الله عليه من الثناء والتحميد والتمجيد لله ما لم يفتحه على أحد من الأولين والآخرين ويقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسل تعطَ، واشفع تشفع، ويبعثه الله ذلك المقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون أهل السماء وأهل الأرض .
وينزل الله للفصل بين عباده ومحاسبتهم، وحينئذ تنشر دواوين الأعمال الحاوية لحسنات العباد وسيئاتهم، وكلٌّ يُعطى كتابه، فيكون عنوان أهل السعادة أن يعطوا كتبهم بأيمانهم، فيكون ذلك أول البشرى بما تحتوي عليه كتبهم من الخيرات، ويعطى أهل الشقاء كتبهم بشمائلهم، ومن وراء ظهورهم بشارة لهم بالشقاوة، وفضيحة لهم بين الخلائق.
ويحاسب الكفار محاسبة توبيخ وفضيحة بين الخلائق، ثم يؤمر بهم إلى النار، ويحاسب الله بعض المؤمنين حساباً يسيراً يضع الله عليه كنفه ويقرره بذنوبه، فإذا ظن أنَّه هالك قال الله له: إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فلا يطلع عليها أحد من الخلق، ويعطى كتابه بيمينه، وتوضع الموازين التي توزن بها الأعمال الصالحة والسيئة، ﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) ﴾ [المؤمنون: 102، 103] .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: وينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أقسام: قسم مستحقون للثواب المحض، سالمون من العقاب، وهم السابقون وأصحاب اليمين، الذين أدوا الواجبات، وتركوا المحرمات، وتابوا مما جنوه من المخالفات.
وقسم مستحقون للعقاب المحض، والمخلدون في نار جهنم، وهم جميع من لم يؤمن بالرسل الإيمان الصحيح، من مشرك ومستكبر، وجاحد ومنافق، ويهودي ونصراني ومجوسي، وجميع من حكمت عليه النصوص الصحيحة بالخروج من الإسلام.
وقسم ثالث ظالمون لأنفسهم مخلطون، فهؤلاء من رجحت حسناته على سيئاته دخل الجنة ولم يدخل النار، وَمَنْ استوت حسناته وسيئاته فهم أهل الأعراف، وهو موضع عال مشرف على الجنة والنار، يقيمون فيه ما شاء الله تعالى، ثم يتداركهم المولى برحمته فيدخلهم الجنة.
ومَنْ رجحت سيئاته على حسناته، فلا بد من دخوله النار بقدر ذنوبه، ثم بعد ذلك يدخل الجنة إلا أن تحصل له شفاعة، فإنَّ الشفاعة لأهل الذنوب والمعاصي ثابتة، يشفع محمد صلى الله عليه وسلم، ويشفع الأنبياء، ويشفع خواص المؤمنين فيمن استحق النار أن لا يدخلها، وفيمن دخلها وأعماله تقتضي الزيادة على تلك المدة أن يخرج منها، ويخرج الله من النار أقواماً برحمته.
وينصب الصراط على متن جهنم، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمن مرّ عليه فهو من الناجين، ولا يدع الله في النار أحداً في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، ويبقى فيها أهلها الذين هم أهلها خالدين أبداً، لا يفتر عنهم عذابها.
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم زيّنّا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين، اللهم لا تحرمنا خير ما عندك من الإحسان بشر ما عندنا من الإساءة والعصيان، وادفع عنا وعن المسلمين كل شر ومكروه بمنك وكرمك وتوفيقك يا أرحم الراحمين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك، وأيّدهم بتأييدك واجعلهم من أنصار دينك يا ذا الجلال والإكرام، وارزقهم بطانة الصلاح وأهل الخير، وأبعد عنهم أهل الزيغ والفساد، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا ونسائنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات انك سميع قريب مجيب الدعوات. اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catsmktba-129.html
|