فضل عشر ذي الحجة
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:- عباد الله:
اتقوا الله تعالى واعلموا أنكم في هذه الدنيا في دار ممر, وأنها تمر بكم مواسم عظيمة, تُضاعف فيها الحسنات, وتُكفَّر فيها السيئات.
ومن هذه المواسم: شهر ذي الحجة, فقد جمع الله فيه من الفضائل والطاعات ما لا يخفى إلا على أهل الغفلة والإعراض.
ففي أوله العشر المباركة التي نوَّه الله بها في كتابه الكريم, حيث قال سبحانه: ( وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ) فإن المراد بها عشر ذي الحجة. أقسم الله بها تعظيماً لشأنها وتنبيها على فضلها, وروى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام, _ يعني أيام العشر _ قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله, إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء ). فدل هذا الحديث على أن العمل في هذه الأيام العشر أحب إلى الله من العمل أيام الدنيا من غير استثناء, وأنه أفضل من الجهاد في سبيل الله, إلا جهاداً واحداً, وهو من خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء.
فهذا الجهاد بخصوصه يَفْضُلُ على العمل في هذه العشر, وأما بقية أنواع الجهاد, فإن العمل في هذه العشر أفضل وأحب إلى الله منها.
فحريٌّ بالمسلم أن يستغل هذه العشر وألا يفوت فرصة العمل فيهن, وذلك بأن يستقبل هذه العشر
أولاً: بالتوبة النصوح, والإقلاع عن الذنوب والمعاصي, ثم بالإقبال على فعل ما أوجب الله تعالى عليه, ثم بإشغال وقته فيما يقربه إلى الله تعالى من الأعمال الصالحة المتنوعة والتي يُتأكد منها ما يلي:
أولا: التكبير والتهليل والتحميد: لما رواه أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتحميد ) وقال البخاري رحمه الله: ( كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما ). وقال أيضاً ( وكان ابن عمر يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيرا ). فحري بنا معشر المسلمين أن نُحْيِيَ هذه السنة التي قد أُهمِلَت في هذا الزمان حتى أصبح لا يعمل بها إلا القليل.
وصيغة التكبير: ( الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر , الله أكبر ولله الحمد ). أو غير ذلك مما ورد عن السلف.
ثانياً: صيام يوم عرفة لغير الحاج, لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة مفطراً. وروى ابن جرير الطبري أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه نهى عن ذلك. وأخرج الترمذي عن ابن أبي نجيح قال: سُئِلَ بن عمر عن صوم يوم عرفة بعرفه؟ فقال: ( حجَجتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه, ومع أبي بكر فلم يصمه, ومع عمر فلم يصمه, ومع عثمان فلم يصمه ). وأما بالنسبة لغير الحاج فإن السنة صيام يوم عرفه, لقوله عليه الصلاة والسلام: ( أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده ) رواه مسلم.
وقد يشكل على بعض الناس ما لو وافق يوم عرفة يومَ جمعة, هل يلزم أن يصوم معه يوم الخميس حتى لا يفرد يوم الجمعة بالصيام؟ والجواب بأن يقال: لا يلزم. ويجوز إفراد يوم الجمعة في هذه الحالة, لأن المراد بالنهي عن إفراد يوم الجمعة هو تخصيصه, وأما إذا كان هناك سبب شرعي فيجوز إفراده, وهكذا لو وافق يوم عاشوراء. وكذلك لو وافق يوم عرفة يوم السبت فإنه يجوز صومه وكذلك يجوز إفراده.
ثالثاً: الحج, وهو أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام, وهو واجب على الفور على كل مسلم حُرٍّ بالغ عاقل مستطيع.
فمن لم يحج من المسلمين البالغين القادرين فهو على خطر عظيم. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له ). وورد في فضل الحج نصوص كثيرة, منها: قوله صلى الله عليه وسلم: ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيومَ ولدته أمه ) وروى أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ؛ أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً . أما بعد:-
ومن الأعمال التي تتأكد في هذه العشر:
الأضحية, وهي سنة مؤكدة, وقال بعض أهل العلم بوجوبها على الموسر. وأما غير الموسر ومن لم يجد سعة في ماله فلا ينبغي أن يشق على نفسه.
والأصل أن الأضحية مشروعة في حق الأحياء, فإن هذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, حيث كان الواحد يضحي عن نفسه وأهل بيته, وأما ما يظنه بعض العامة من اختصاص الأضحية بالأموات فلا أصل له. وبعض الناس يضحون عن الميت أول سنة يموت أضحيةً يسمونها ( أضحية الحفرة ) يعتقدون أنه لا بد منها, وأنه لا يجوز أن يُشْرَكَ معه في ثوابها أحد, وهذه بدعة منكرة لا أصل لها في الشرع.
وبعض الناس يضحون عن أمواتهم وينسون أنفسهم وأهليهم, وهذا جهل منهم بأحكام الأضحية والحكمة في مشروعيتها.
عباد الله:
إذا دخل شهر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فإنه يحرم عليه أن يأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره أو جلده حتى يذبح أضحيته, لحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره ) رواه أحمد ومسلم.
وإذا نوى في أثناء العشر أمسك عن ذلك من حين نيته, ولا إثم عليه فيما أخذ قبل ذلك. وهذا الحكم خاص بالمضحي فقط, حتى لو كان لا يتولى الذبح بنفسه فإنه يمسك عن شعره وأظفاره.
وإذا أخذ شيئاً من شعره وأظفاره أو بشرته متعمداً فعليه أن يتوب ولا كفارة عليه.
فاتقوا الله عباد الله واستغلوا أوقاتكم فيما يقربكم إلى الله واعلموا أنكم لم تخلقوا عبثاً ولن تتركوا سدى
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وعلى حسن عبادتك،
|