حافظوا على أثر رمضان
6/شوال/1433هـ
إِنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) (( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )) .
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
أيها الناس : لقد أثر فينا رمضان ، عشنا فيه الروحانية وذقنا لذة الطاعة وحلاوة الإيمان ، أثر في نفوسنا وأرواحنا وحياتنا كلها ، بل حتى في أجسادنا بالصحة والعافية ، ولا نزال نتذوق آثار رمضان الطيبة ونستلذ ذكرياته أمداً ، وتمنى بعضنا لو لم ينقضي رمضان . ونأخذ من هذا عبرة ألا وهي : أن الطريق للحياة الطيبة المطمئنة هو العمل الصالح والقرب من الله وأخذ النفس بالحزم والعزم في ذلك (( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً )) (( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى )) .
ويصعب علينا عباد الله أن يكون حالنا بعد رمضان كحالنا في رمضان ، لأن رمضان موسم تنشط فيه النفوس على سائر الطاعات ، وفيه من المحفزات الربانية ما ليس في غيره من الشهور .
ولكن المؤمن الصادق اللبيب المنيب ، الحازم العازم في طلب المرضاة والدرجات في الجنات يحافظ على أثر الطاعة إن أطاع الله ، ويأخذ نفسه بما تطيق من العمل الصالح فيداوم ولو على القليل فالله يحب ذلك من العبد ويرضاه ، ليَبقي العبد دائم الصلة بالله ، حي القلب ، منشرح الصدر ، متلذذ بالإيمان كل الشهور والأيام .
عباد الله : لرمضان أثر بالغ على أعمال القلوب ، ومن آثار رمضان الجليلة في قلب العبد ، تقويته لجانب المراقبة لله ، حيث كان الصائم مراقب لله رقيب على نفسه رقابة ذاتية في السر والعلانية والغيب والشهادة ، محافظا على صيامه من الانتقاض أو الانتقاص .
فحري بالمؤمن أن يحافظ على هذا الأثر الجميل الجليل فيستمر في استشعار وتنمية المراقبة لله
ومراقبة الله عز وجل منزلة علية من منازل السائرين إلى الله والدار الآخرة ، وهي من أنفع أعمال القلوب وأجلها ، وحقيقتها : دوام علم العبد وتيقنه واستحضاره اطلاع الحق سبحانه على ظاهره وباطنه وسره وعلانيته ، وهذا العلم والاستحضار يُحدِث للعبد مراقبة لله عند أمره فيفعله على أحسن حال ، ومراقبة لله عند نهيه فيجتنبه ويحذر الوقوع فيه ، ويتعبد لله بمقام الإحسان فيعبد الله كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه فالله يراه ويطلع على سره ونجواه ، وهذا المقام هو أعلى مقامات الدين ، ويثمر للعبد حياة القلب ، وحلاوة الإيمان ، ودوام الذكر والشكر ، والحياء من الله ، فيحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى ويؤثر الآخرة على الدنيا ، (( وَالاَْخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )) ، ويستحي من ربه أن يراه يفعل ما نهاه ، أو يطلع عليه تاركاً تنفيذ ما أمره .
عباد الله : عبودية المراقبة هي التعبد لله بأسمائه الحسنى ( العليم والمحيط والسميع والبصير وغيرها من أسماء العلم والإحاطة ، وبالخصوص اسميْه الحُسنييْن ( الشهيد والرقيب ) ، فيستحضر العبد معناها
فمعنى اسم الله ( الشهيد ) : المطلع على كل شيء الشاهد له , الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، ولا يحجبه عن خلقه ظاهر عن باطن ولا كبير عن صغير ولا قريب عن بعيد ، عالم الغيب والشهادة ، يسمع جميع الأصوات خفيها وجليها ، ويبصر جميع الموجودات دقيقها وجليلها وصغيرها وكبيرها ، وأحاط علمه بكل الأشياء ظواهرها وبواطنها (( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا )) ، أحصى أعمال العباد كلها وعلم مقاديرها وشهد قصد العباد لها وعملهم إياها فهو الذي يشهد لعبادة وعلى عبادة بما عملوه ، العباد ينسون ما عملوه وما اقترفوه ، والله تبارك وتعالى قد أحصاه ولا ينساه (( أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )) إلى الله مرجع العباد (( ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ )) (( وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ )) ، (( وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا )) للناس وعلى الناس وبين الناس .
ووالله إنه لموقف مهيب رهيب ، موقف وجل وخجل وحياء ، يوم أن تقدم على ربك جل جلاله وتعرض عليه ، فيكون هو سبحانه الشهيد على أعمالك (( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ))
ومعنى اسم الله ( الرقيب ): المراقب لأعمال العباد على الدوام (( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) ، المطلع على ما حوته العوالم من الأسرار والغيوب ، (( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ))
فلا تغفلوا عباد الله عن عبودية المراقبة لله الرقيب الشهيد ، فما أشد الحاجة للمراقبة في زماننا هذا الذي انفتحت فيه أبواب الشهوات ، وكثرت فيه الملهيات ، وسهلت فيه الخلوة بالمحرمات ، وقل فيه المعين على الطاعات (( الّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ )) .
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ، ونفعني وإياكم بما فيها من الآيات والحكمة ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أرسل رسوله ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً ، وأشهد أن لا إله لا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً ، وأشهد أن محمداً عبد ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً، أما بعد:
أيها المسلمون : من المحافظة على أثر رمضان الحرص على صيام الست من شوال ، روى مسلمٌ في صحيحه, عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْر ))، فهذا الحديث الصحيح دليل على سنية وفضل صيام الست من شوال ، فلا تلتفتوا لمن شكك في مشروعية صيامها محتجا بقولٍ غير قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم اعلموا أن صيام الست من شوال سنة وليس بواجب فمن صام نال الثواب المذكور ومن لم يصم فلا إثم عليه ولا حرج ، ومن اعتاد صيامها يجوز له أن يترك صيامها بعض السنوات ، ولا يلزمه الاستمرار ، لكن المداومة أحب إلى الله .
واعلموا أنه لا فرق بين أن يصوم الإنسان هذه الأيام الستة بعد العيدِ مباشرة أو يؤخرها بعدَ ذلك , ولا فرق بين أن يصومها تباعاً أو يفرقها, لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق ذلك ولم يقيده, ولكن لابد أن يكون صيامها بعد إتمام صيام كل أيامِ رمضان, فمن عليه قضاءٌ من رمضان فإنه لا يصومَ الأيام الستة قبل أن يقضي ما عليه من رمضان , لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( منْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ )) فلا بد من صيام رمضان كاملا قبل صيامها ليتحقق الإتباع ، وهذه الأيام الستة بمثابة النافلة الراتبة لرمضان .
فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك،. اللهم إنا نسألك رحمة تصلح بها قلوبنا وتفرج بها كروبنا وتيسر بها أمورنا وتشفي بها مرضانا ، وترحم بها موتانا يا أرحم الراحمين . اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا أنفسنا طرفة عين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، ووفق اللهم إمامنا بتوفيقك ، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك وهيئ له البطانة الصالحة الناصحة التي تعينه على الخير وتدله عليه يا رب العالمين
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك ويُهدى فيه أهل معصيتك ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر يا ذ الجلال والإكرام ، اللهم اكفنا واكف بلادنا شر الأشرار وكيد الفجار يا عزيز يا جبار ، اللهم من أرادنا وديننا بسوءٍ فعليك به اللهم اشغله بنفسه واجعل كيده في نحره وتدبيره في تدميره يا قوي يا عزيز اللهم من حمل علينا السلاح فاقتله بسلاحه إنك أنت السميع العليم .
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات .
اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.
|