الاستعداد لرمضان 34هـ
الحمد لله واسع الفضل والإحسان ، الكريم المنان ، الذي يعلم ما يخفى في الجنان ، وما يكن في الخواطر والأذهان ، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في أي مكان ، } يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ { .
أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، حمدا يفوق العد والحسبان ، وأشكره على نعمه وآلائه ، شكرا تنال به مواهب الرضوان . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، دائم الملك والسلطان ، } رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ، فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ { .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، أرسله إلى الإنس والجان ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، أهل الصدق والجود والوفاء والإحسان ، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد فيا عباد الله :
اتقوا الله U ، فهو القائل في كتابه : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ { فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
إننا في هذه الأيام ، نعيش أواخر أيام شعبان ، وهذا يعني ـ أيها الأخوة ـ أننا سوف نستقبل شهر رمضان ، بعد عدة أيام ـ بإذن الله تعالى ـ فلم يتبق سوى أيام قلائل ، ويحل شهر رمضان ضيفا على المسلمين ، ويتمتع المسلمون بأفضل شهر يمر عليهم في أعمارهم ، فهو الشهر الذي ميزه الله U على غيره ، فأنزل فيه كتبه على رسله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ كما قال تعالى : } شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ { ، وفي الحديث الذي رواه الإمام احمد والطبراني ، وحسنه الألباني ، يقول r : (( أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ r فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ ، وَأُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ ، وَالإِنْجِيلُ لِثَلاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ ، وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ لأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ )) فشهر رمضان ، ليس كسائر الشهور ، يكفي في فضله ـ أيها الأخوة ـ أن فيه ليلة خير من ألف شهر ، كما قال تعالى : } لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ { .
ومما يدل على تميز رمضان على غيره من شهور العام ، قول النبي r في الحديث الصحيح : (( إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ ، وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ )) .
فشهر رمضان ، شهر له مكانته ، وله منزلته وفضله ، ولذلك جاء في مسند الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ أن النبي r يفرح بقدوم شهر رمضان في شهر رجب ، أي قبل دخوله بشهرين ، شهر رجب ـ أيها الأخوة ـ هو الشهر السابع في العام ، ورمضان التاسع ، فالنبي r لإيمانه ويقينه وتصديقه ، بما أنزل عليه ربه U ، قبل رمضان بشهرين ، يترقب وينتظر ، ويسأل الله U أن يمد في عمره ليبلغه إياه ، ففي مسند الإمام أحمد ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ r إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ قَالَ : (( اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ ، وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ )) .
فالنبي r ، يسأل ربه U أن يبلغه رمضان ، لأن شهر رمضان ، ليس كغيره من الشهور ، ولا مثله في شهور العام ، ولذلك سؤاله r لربه U ، لمعرفته بقيمته ، واستشعاره لعظيم فائدته ، ويقينه بفضله ومنفعته ، ولاستغلاله بما يعلي مكانته ، ويرفع درجته ، ويرضي خالقه U .
فرمضان ـ أيها الأخوة ـ موسم عظيم ، ومناسبة مفيدة جدا ، لفعل الطاعة والعبادة ، والتقرب إلى الله سبحانه ، والبعد عن الذنوب والمعاصي ، فينبغي للمسلم أن يعد لهذا الشهر عدته ، ويحمد الله سبحانه ، أن أمد في عمره حتى بقي إلى هذه الأيام ، ويستعد له ، استعداد المؤمنين ، الذين يريدون وجه الله والدار الآخرة ، ويحذر أن يستعد له استعداد الغافلين ، وكما قال النبي r في الحديث الصحيح : (( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ )) . فالله U يعامل المسلم على حسب نيته ، ويبلغ المسلم بنيته الصادقة مالم يبلغه في عمله ، كما قال U : } وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا { . يقول ابن سعدي في تفسيره : } فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ { أي : فقد حصل له أجر المهاجر الذي أدرك مقصوده بضمان الله تعالى ، وذلك لأنه نوى وجزم ، وحصل منه ابتداء وشروع في العمل ، فمن رحمة الله به وبأمثاله أن أعطاهم أجرهم كاملا ولو لم يكملوا العمل ، وغفر لهم ما حصل منهم من التقصير في الهجرة وغيرها .
فالنية في هذه الأيام ـ أيها الأخوة ـ ونحن نستقبل شهر رمضان ، مهمة للغاية ، يجب عليك ـ أخي المسلم ـ أن تراجع حساباتك صادقا مع نيتك . اسأل نفسك ، وأنت تستقبل هذا الشهر العظيم ، ماذا خططت له ، وما هو الهدف الحقيقي لها ، الذي سوف تخرج به من شهر رمضان ؟
إننا نرى ـ أيها الأخوة ـ من يستعد لهذا الشهر ، بأمور لا تتناسب أبدا ، ولا تليق بشهر كرمضان ، إنما من شأنها سرقة رمضان ، وحرمان المسلم ، من استغلاله والاستفادة منه . النبي r يسأل ربه ، أن يبلغه رمضان قبله بشهرين ! هلا سأل أحدنا نفسه ، لماذا النبي r يفعل ذلك ؟ وماهو هدفه r من سؤاله ؟
هل يريد r بسؤاله أن يبلغه رمضان ، لمتابعة المسلسلات الهابطة ، والبرامج الساقطة ، أو للتمتع باللهو واللعب ، و التفنن بما لذ وطاب من أنواع المآكل والمشارب ؟ اسأل نفسك أخي ؟ كلا ـ والله ! إنما سؤاله r لاستغلاله بطاعة الله U ، واستثمار أوقاته بما يقربه منه جل جلاله . اللهم بلغنا رمضان ! من أجل ماذا ؟ لنسهر الليل وننام النهار ! ونعمر الملاعب ونهجر المساجد ، ونتابع ما لا يفيد ولا ينفع ، ونترك تلاوة كتاب الله U ، ونقضي على وقت نحن بحاجته ، ونستطيع من خلاله أن نبلغ أعلى منازل الجنة بإذن الله تعالى !
فالمسلم يجب أن يترفع بنفسه ، عن سفاسف الأمور ، ويوطن نفسه لمعالي الأخلاق ، ولا ينقاد خلف الذين لا هم لهم إلا نهب الأموال ، والقضاء على الأوقات ، واللهو واللعب ، الذين قد يقع بحق بعضهم قول الله تعالى : } فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ { . فالاستعداد لشهر رمضان ، لا يكون باللهو واللعب ، والغفلة الخطيرة ، التي أودت في مستقبل كثير من الناس ، إنما يكون بالنية الصادقة ، والعزيمة الجادة ، لاستغلال هذا الشهر ، بالعبادة والطاعة ، وما يقرب من الله U وما يكون وسيلة لرفع الدرجات ، وتبديل السيئات بإذن الله تعالى .
فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ ولنعقد النية من الآن ، ففي الحديث الصحيح ، يقول النبي r : (( مَنْ سَأَلَ الله تَعَالَى الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ ، بَلَّغَهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ )) .
اسأل الله لي ولكم علما نافعا ، وعملا خالصا ، ورزقا واسعا ، وسلامة دائمة ، إنه سميع مجيب . أقول قولي هذا وأستغفر الله ، لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
خير ما يستقبل به رمضان ، العزم على ترك الذنوب والآثام ، والتوبة من السيئات ، وهو فرصة للتخلص من العادات السيئة ، والأخلاق الرذيلة ، وتعويد النفس على ما يحبه الله U ويرضاه ، فرمضان شهر التوبة ، ومن لم يتب فيه فمتى يتوب .
نعم ـ أخوتي في الله ـ شهر رمضان فرصة للتعود على صلاة الجماعة ، وتلاوة القرآن ، وفرصة للتخلص من التدخين ، فرصة لتنظيم الوقت ، فرصة للإحساس بالحاجة للطعام والشراب ، وإدراك معاناة الفقراء والمساكين ، وغير ذلك من الأعمال التي باستطاعة المرء التعود عليها فعلا وتركا في شهر رمضان .
فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ ولنحرص على التخطيط لاستغلال شهر رمضان ، فإن كان الناجحون في الأعمال الدنيوية ، يحرصون على أخذ دورات ، تحفزهم على أعمالهم وتجدد معلوماتهم ، فهاهو شهر رمضان خير محفز ومعود لأعمال الآخرة .
ولنحذر ـ أيها الأخوة ـ الاستعداد لرمضان بما يستعد به الغافلون ، الذين يصدق علي بعضهم قول الله تعالى : } يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ { .
اسأل الله U أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب ، اللهم بلغنا رمضان ، واجعلنا فيه من الفائزين ، برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم أحينا سعداء ، وتوفنا شهداء واحشرنا في زمرة الأتقياء ، يا رب العالمين . اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار . اللهم وفقنا لهداك ، واجعل عملنا في رضاك ، وامنن علنا بفضلك وجودك ورحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم طهر قلوبنا ، وحصن فروجنا ، واحفظ أعراضنا ودماءنا وأموالنا ، وارحم اللهم موتانا ، واشف مرضانا ، واسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك نصر الإسلام وعز المسلمين ، وذل الشرك والمشركين ، اللهم اجعل بلدنا هذا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين . اللهم آمنا في أوطاننا ، واستعمل علينا خيارنا ، واجعل اللهم ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم من أرادنا بسوء ، اللهم اشغله بنفسه ، واجعل كيده في نحره ، واجعل تدبيره سببا لتدميره يا رب العالمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-120.html
وللمزيد من الخطب السابقة عن شهر رمضان تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-132.html
|