دلائلُ الربوبيةِ في الغيومِ والْمطرِ
إِنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ،
ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له،
ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ،
وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ
وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. ((يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))
،
الْزَمُوا التقوى عبادَ اللهِ بالثباتِ على التوحيدِ،
والتَّمسكِ بالسنةِ، فَبِهما تتحَقَّقُ الشهادتَيْن، واعلمُوا أنَّ خيرَ الكلامِ
كلامُ الله ، وخيرُ الهديِّ هديُ محمدٍ صلىَ اللهُ عليه وسلم ، وشرَّ الأمورِ
محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةً، وكلَّ بدعةٍ ضلالةً، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ، أما
بعد:
أيها الناس: مشهدٌ مِن الْمشاهدِ الكونيةِ عجيبٌ، كثيراً ما يتكررُ
أمامَ نواظرِنا وفوق رؤوسِنا، لكنْ: قلَّ عندَ رؤيتِه تفكُرُنا وتأمُلُنا، معَ أنَّ
اللهَ دعانا إلى التفكُّرِ فيه في مواضعَ مِن كتابه.
إنه مشهدُ السحابِ عبادَ الله، الغيومُ التي نراها
كثيراً، نراها تقبلُ مِن منشئِها وتنتشرُ في السماءِ شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً
بأنواعها: الأبيضِ والأسودِ، والْمنخفضِ والْمرتفعِ، والخفيفِ والثقيل، الْمبسُوطِ
والركاميِّ، الْمُزنِ الصغيرِ والكبيرِ، وسحابِ الديمةِ الذي يغطي السماءَ باتساعٍ
وانتشار.
مرةً ينزلً منها الْمطرُ وابلاً غزيراً، ومرة أخرى رشاً
خفيفاً، مرة بَرَداً ومرة ودقاً، مرة مصحوباً برعدٍ وبرقٍ وصواعق ومرة بدون ذلك.
حقاً، إن هذا التنوع في الخلق من دلائل ربوبية الله وقدرته
العظيمة وبديع صنعه، ووحدانيته في الربوبية، الْمستلزمةِ لوحدانيتِهِ في الألوهية.
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ــ فالرب هو المعبود ــ الَّذِي
خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ))، فالخالقُ لهذه الأشياء هو الْمستحقُّ
للعبادة.
أيها الناس، لقد أمرنا الله كثيراً في القرآن بالتفكر في آياته
الكونية، لأن لها أثراً بالغاً على الإيمان بالزيادة،
ففي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد
((إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ
السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ
دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء
وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)).
السحابُ الْمُسخَّر، السحابُ الْمُذلَّلِ بين السماءِ
والأرض، السحابُ الْمُسيَّر، السحابُ الْمُثَبَّتِ في الهواءِ، آيةٌ مِن آياتِ
اللهِ العظيمةِ لقوم ينظرون بأبصارِهم، ويتفكرون ببصائرِهم وقلوبهم.
فلنرسخ إيماننا ولنحقق توحيدنا بمزيد من التفكر والتأمل.
فمن دلائل الربوبية في مشهد السحاب:
أولاً: نشأة السحاب وتكونه، فقد وصفه الله في القرآن، حيث يبدأ
صغيراً خفيفا منتشراً، يَخْلُقُهُ الله من الهواء الذي في الجو، ومن بالبخار
المتصاعد من الأرض، بعد أنْ لم يكن شيئاً، ثم يجمعه الله ويُؤَلِّفُ بينه، ثم
يجعله متراكماً ثقيلاً يحمل الماء والبرد الكثير.
يقول اللطيف الخبير: ((أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ
رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ
مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ
مَنْ يَشَاءُ)).
ثانياً: من دلائل الربوبية في السحاب
هذه السحب الضخمة، والغيوم الكثيفة الثقيلة، مُثبَّتةٌ
مسخرةٌ في الهواء بين السماء والأرض دون أعمدة ولا علائق، لا تُسقطها جاذبيةُ
الأرض، رغم أنها تحمل آلاف الأطنان من الماء، ومِن جبالِ البرد العظيمة، غيوم في
غايةِ الثقل، فمن الذي يمسكها أن تقع على الأرض؟ ومن الذي يسوقها ويسيرها بسلاسة؟
إنه الله العظيم الرب الخالق القادر المدبر للكون وحده، الذي يستحق أَنْ يُعبد ويُحمد
ويُمجد وُيسبَّح لكماله وجلاله، فسبحان من سخر السحاب بين السماء والأرض، قال الله
جل وعلا: ((وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ
السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" وقال "وَيُنْشِئُ
السَّحَابَ الثِّقَالَ))، ولدلالة السحاب على ربوبية الله أقسم بها سبحانه
فقال: ((فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً)) فالحاملات هي السحاب، الوقر
هو الحمل الثقيل.
ثالثاً: من دلائل الربوبية في الغيوم
الرعد، هذا الصوت الشديد المخيف، والبرق هذا الضوء
اللماع الذي يكاد سناه يذهب بالأبصار، من آيات ربوبية الله((وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً
وَطَمَعاً"، "هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ
السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ
خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ)).
وتأملوا عباد الله كيف أن الله بفضله ولطفه ورحمته يصرف
ضرر الصواعق عن عبادِه رغم كثرتها واشتعال السماء بها، ثم يُنِيلُ العبادَ ما
يرجون ويطمعون من نفعها، ولولا ذلك لما خرج أحد من بيته وقتها، فاحمدوا الله على
لطفه ورحمته وعافيته.
ومِن جلالِ ربنا وعظيم سلطانه سبحانه، أن هذين المخلوقين
العظيمين المخيفين، الرعدَ والبرقَ يسبحان بحمد الله ((وَيُسَبِّحُ
الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ)) يسبحان كسائر
الخلق، ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)) فالله سبحانه الخالق
المستحق للتسبيح وللمحامد كلها، من الخلق كلهم، والمنزه عن النقائص كلها.
ولذا يستحب لنا إذا سمعنا الرعد أن نقول: "سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ
وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ" فمَن قال ذلك عُوفي مِن ضرره.
فسبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد
كلماته
باركَ اللهُ لِـي ولكُم في الكتابِ والسنّةِ ونفعَنِـي
وإياكّم بما فيهما مِن الْمواعظِ والحكمة ِ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كل ذنبٍ إنه
هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه
وامتِنانِه، وَأَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ
تعظيمًا لشأنِه، وأَشهدُ أنَّ نبيَّنا مُحمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُه الدَّاعِي
إِلى رِضْوَانِهِ، صلِّى اللهُ عليه وعلى آلِه وَأصحابِه وَإِخْوَانِهِ وسلِّمَ
تَسلِيماً كَثِيراً . أما بعد:
رابعاً: عباد الله، من دلائل ربوبية الله في
السحاب والغيوم: المطر،
فتأملوا عباد الله كيف أن الله برحمته ولطفه، أنزل المطر
قَطَرات ونُقطاً متفرقة لطيفة، تخرج من خلل السحاب، ولم ينزله منصباً بتيارات
مائية كانصباب الأودية والأنهار والشلالات، حتى لا يَحْدُثَ الدمارُ والفسادُ في
الأرض، فإذا تجمع ماء القطرات سال في مجاريه وأوديته التي جعلها الله له، وتجمع في
أحواضه وبحيراته وغدرانه، فنفع الناس دون ضرر.
وتأملوا عباد الله كيف أن الله جعل المطر ينزل من علو
ليعم جميع الأرض مرتفَعَها ومنخفَضَها، يَعُمَّ الجبل والتل، والسهل والوعرَ،
فاللهم لك الحمد على لطفك وفضلك ورحمتك.
ثمَّ تأمَّلوا عباد الله الحكمةَ البالغةَ في إنزال
المطر بقَدْر الحاجة، حتى إذا أخذت الأرضُ حاجتَها منه، أقلَع عنها وأعقَبه
بالصَّحو، فالصَّحو والغَيم ــ يَعْتَقِبان على العالم لما فيه صلاحُه، ولو دام
أحدُهما كان فيه فسادُه.
فالمطر عباد الله في الأصل رحمةٌ من رحمات الله، قال
الله تعالى في المطر: ((وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ
الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ
الْحَمِيدُ)).
لذا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل المطر
سُرِّيَ عنه، وفرح به، وتعرض له، وحسر عن ثوبه ليصيبه، وقال: "رحمة"، وكان يقول: "إنه حديثُ عهدٍ بربِه"، وأمر عليه الصلاة
والسلام بالدعاء عند نزوله لأنه وقت رحمة، فهو من مواطن إجابة الدعاء، فالدعاء عند
نزول المطر من علامات الإيمان ومن محققات التوحيد.
ومن دلائل الإيمان أن نقول عند نزول المطر: "مُطرِنا بفضلِ اللهِ ورحمتِه"، ونقول: "اللهم صيباً نافعاً" "اللهم صيباً هنيئاً" مسلم.
خامساً: أن من الإيمان بربوبية الله إفراده بعلم نزول المطر
والقدرة على إنزاله، فنزول المطر من مفاتح الغيب التي استأثر الله بعلمها
التفصيلي، وليس للبشر إلا توقع نزوله لما شاهدوه من أسباب نزوله الطبيعية، فإذا
ورد عليكم خبر توقع نزول المطر فتأدبوا بأدب أهل التوحيد في ألفاظكم، واربطوه
بمشيئة الله ورحمته.
فإذا قحطت السماء وتأخر نزول المطر أو قل، كان من تحقيق
العبودية والتوحيد استسقاء رب السماء بالصلاة والدعاء والاستغاثة، فلا يملك إنزال
الغيث إلا هو سبحانه.
سادساً: من دلائل الربوبية في السحاب، الرياح التي تصحبها، فإن الرياح تبشر بقدوم السحاب
والرحمة، ((وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ
بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ)) ومن الرياح ما يحمل السحاب، ومنها ما
يسوقها إلى حيث ما أمر الله، ومنها ما يلقحها لتنزل مطرها.
لذا يستحب عند هبوب الرياح أن يقول المؤمن: "اللَّهُمَّ إنِّي أسألُكَ مِن خَيرِها وخَيرِ ما فيها
وخَيرِ ما أُرْسِلَت بِهِ وأعوذُ بِكَ مِن شرِّها وشرِّ ما فيها وشرِّ ما
أُرْسِلَت بِهِ" لأنه مرسلها ومصرفها، لأنها مبشرات برحمة الله تارة،
وتأتي بالعذاب والعقوبة تارة أخرى، ويحرم سب الريح لأن سبَّها سب لمصرفها
العظيم سبحانه.
وإذا شاء الله
تعالى بعلمه وحكمته وقهره، جعل هذه الرياح اللطيفة عواصف وأعاصير قاصفة مدمرة على
بعض البلاد والعباد، في لحظات تدمر ما ظنه العباد الضعفاء قوة لا تقهر، ولا يقف في
وجهها أحد، وفي لحظات ينكشف الزيف البشري، أما جندي واحد من جنود الله.
فاسألوا الله من فضله، واسألوه العافية والمعافاة
الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
فاللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام: نسألك من
فضلك العظيم، ونسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة.
اللهم أحينا على التوحيد والسنة وأمتنا عليهما واجعل آخر
كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، اللهم أحينا على السلامة من الشرك وجنبنا
وبنينا أن نعبد الأصنام. فاللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم، ونستغفرك لِما
لا نعلم.
اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة
أمورنا، اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى يا ذا الجلال
والإكرام .
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، واقض الدين عن الْمدينين،
اللهم لا تقتلنا بعذابك ولا تهلكنا بغضبك وعافنا بين ذلك، اللهم اشف مرضانا وارحم
موتانا وتولّ أمرنا وأصلح أعمالنا وأحوالنا وقلوبنا، ربنا اغفر لنا ولإخواننا
الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا اغفر لنا
ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا
من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب
النار.
لا إله إلا أنت سبحانك إنّا كنّا من الظالمين. اللهم إنا
نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت،
أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت قوة لنا ومتاعاً إلى
حين. اللهم سقيا رحمة لا سقيا بلاء ولا هدم ولا غرق. اللهم إنا خلق من خلقك آمنا
بك ووحدناك ورجوناك، فلا تحرمنا فضلك وغيثك ورحمتك. اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ،
اللهم أغثنا.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ،
ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121