سُرْعَةُ
الْأَيَّامِ وَعَجَلَةُ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ
الْحَمْدُ للهِ ، أَنْشَأَ الْكَوْنَ مِنْ عَدَمٍ ، وَعَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوَى ، أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ تِبْيَانًا لِطَرِيقِ النَّجَاةِ
وَالْهُدَى ، أَحْمَدُهُ وَأَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمٍ لَا حَصْرَ لَهَا وَلَا مُنْتَهَى
، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ يُرْتَجَى ،
وَلَا نِدَّ لَهُ يُبْتَغَى ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ
وَرَسُولُهُ ، الْحَبِيبُ الْمُصْطَفَى وَالنَّبِيُّ الْمُجْتَبَى ، صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ، وَمَنْ سَارَ عَلَى النَّهْجِ وَاقْتَفَى .
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا
عِبَادَ اللهِ :
أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى
اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَصِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ ، وَخَيْرُ زَادٍ يَتَزَوَّدُ
بِهِ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ لِمَعَادِهِ ، يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ
: } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ
{ ، وَيَقُولُ أَيْضًا : } وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
{ ، فَاتَّقُوا اللهَ يَا عِبَادَ اللهِ ، وَاعْلَمُوا
رَحِمَكُمُ اللهُ بِأَنَّ سُرْعَةَ انْقِضَاءِ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ
، ظَاهِرَةٌ لَا يُنْكِرُهَا عَاقِلٌ ، وَلَا يَجْحَدُهَا إِلَّا مُعَانِدٌ مُكَابِرٌ
، مَنْ مِنَّا أَيُّهَا الْإِخْوَةُ مَنْ لَمْ يَشْعُرْ بِسُرْعَةِ مُضِيِّ لَيَالِيهِ
وَأَيَّامِهِ ، وَانْقِضَاءِ شُهُورِهِ وَأَعْوَامِهِ ، كُلُّنَا وَاللهِ نَشْعُرُ
بِذَلِكَ ، وَنَعْتَرِفُ بِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ مَوْضُوعَ حَدِيثِنَا فِي مَجَالِسِنَا
، وَأَكْثَرُنَا مَنْ يَشْتَكِي مِنْهُ ، وَيَعَضُّ أَصَابِعَ النَّدَمِ مِنْ أَجْلِهِ
، وَلَكِنْ لَا تَأْثِيرَ لِذَلِكَ فِي حَيَاةِ بَعْضِنَا ، وَالدَّلِيلُ ؛ الزَّمَنُ
يَمْضِي ، وَالْوَقْتُ يَنْقَضِي ، وَتَجِدُ فِينَا مَنْ يَجْرِي فِي مَكَانِهِ ،
يَتَقَدَّمُ مَرَاحِلَ فِي عُمُرِهِ ، وَهُوَ لَمْ يَسْتَثْمِرْهُ بِمَا يَنْفَعُهُ
فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ .
بَلْ يُوجَدُ مَنْ يَتَقَدَّمُ
فِي عُمُرِهِ ، وَلَكِنَّهُ يَتَأَخَّرُ فِي دِينِهِ ، بَلْ بَعْضُهُمْ حَالُهُ كَحَالِ
فَقِيرِ النَّصَارَى لَا دُنْيَا وَلَا دِينَ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ .
وَسُرْعَةُ الْأَيَّامِ
وَعَجَلَةُ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ ؛ عَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ ، وَدَلِيلٌ
عَلَى قُرْبِ انْتِهَاءِ الدُّنْيَا ، هَذَا مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، فَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( لَاْ
تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ ، وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ ،
وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ
الْقَتْلُ الْقَتْلُ )) ، وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ
الْأَلْبَانِيُّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ ،
فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ ، وَتَكُونَ
الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ ، وَتَكُونَ
السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ )) . يَقُولُ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ
اللهُ- الْمُتَوَفَّى عَامَ ثَمَانِ مِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ لِلْهِجْرَةِ
فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: (( فَالَّذِي تَضَمَّنَهُ
الْحَدِيثُ قَدْ وُجِدَ فِي زَمَاننَا هَذَا؛ فَإِنَّا نَجِد مِنْ سُرْعَة مَرِّ
الْأَيَّام مَا لَمْ نَكُنْ نَجِدهُ فِي الْعَصْرِ الَّذِي قَبْلَ عَصْرِنَا هَذَا
)) . فَمَاذَا عَسَى أَنْ يُقَالَ فِي زَمَانِنَا نَحْنُ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ؟!
لَا شَكَّ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ
- أَنَّ فِي تَقَارُبِ الزَّمَانِ ، وَعَجَلَةِ الْأَيَّامِ، وَسُرْعَةِ الشُّهُورِ
وَالْأَعْوَامِ: حَثٌّ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ فِي الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ،
وَوَاعِظٌ لَهُ لِلْإِعْرَاضِ عَنِ الْفَانِيَةِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْبَاقِيَةِ
؛ لِأَنَّ عُمْرَ الْإِنْسَانِ
مَا هُوَ إِلَّا سَاعَاتٌ وَأَيَّامٌ ، وَشُهُورٌ وَأَعْوَامٌ ، وَمَا يَمْضِي مِنْهُ
لَا يَعُودُ، وَمَا يَبْقَى مِنْهُ نِهَايَتُهُ الْقَبْرُ وَاللَّحْدُ وَالدُّودُ
.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
-رَحِمَهُ اللهُ-: (( مَا مِنْ يَوْمٍ يَنْشَقُّ فَجْرُهُ إِلَّا وَيُنَادِي: يَا
ابْنَ آدَمَ أَنَا خَلْقٌ جَدِيدٌ ، وَعَلَى عَمَلِكَ شَهِيدٌ، فَتَزَوَّدْ مِنِّي
فَإِنِّي إِذَا مَضَيْتُ لَا أَعُودُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )).
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ :
} وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا
وَخَيْرٌ أَمَلًا{ .
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَنَفَعَنِي
وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ، أَقُولُ قَوْلِي
هَذَا ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ فَإِنَّهُ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ
للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ ، وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ ، صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
أَمَّاْ بَعْدُ ، أَيُّهَا
الْإِخْوَةُ المُؤْمِنُونَ :
يَقُولُ
عَزَّ وَجَل: } كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ
الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ {
يَقُولُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: } وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ
{ تَصْغِيرٌ لِشَأْنِ الدُّنْيَا وَتَحْقِيرٌ لِأَمْرِهَا،
وَأَنَّهَا دَنِيئَةٌ فَانِيَةٌ قَلِيلَةٌ زَائِلَةٌ .
فَالْحَيَاةُ
الدُّنْيَا - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - بِجُمْلَتِهَا صَغِيرَةٌ حَقِيرَةٌ دَنِيئَةٌ
، فَكَيْفَ بِجُزْءٍ بَسِيطٍ قَلِيلٍ مِنْهَا ، يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ : (( أَعْمَارُ
أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ
ذَلِكَ )) .
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ
اللهِ، وَتَدَارَكُوا مَا بَقِيَ مِنْ أَعْمَارِكُمْ بِأَعْمَالِكُمُ الصَّالِحَةِ،
فَفِي كُلِّ يَوْمٍ يَمْضِي عَلَيْكُمْ ؛ تَرْتَحِلُونَ مَرْحَلَةً إِلَى الْآخِرَةِ،
فَعُمْرُ الْإِنْسَانِ - كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - أَيَّامٌ مَجْمُوعَةٌ
، كُلَّمَا مَضَى يَوْمٌ مَضَى بَعْضُهُ .
أَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِهُدَاهُ ، وَأَنْ
يَجْعَلَ عَمَلَنَا فِي رِضَاهُ إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ .
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ
الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى ، اللَّهُمَّ أَحْيِنَا سُعَدَاءَ ،
وَتَوَفَّنَا شُهَدَاءَ ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ الْأَتْقِيَاءِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ
. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ رِضَاكَ وَالْجَنَّةَ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ سَخَطِكَ
وَالنَّارِ، اللَّهُمَّ ارْفَعِ الْوَبَاءِ ، وَادْفَعْ عَنَّا الْبَلَا وَالْغَلَا
وَالرِّبَا وَالزِّنَا وَالزَّلَازِلَ وَالْمِحَنَ وَسُوءَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَمَا بَطَنَ ، عَنْ بَلَدِنَا هَذَا وَعَنْ سَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ
.
}رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ
حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ{ .
عِبَادَ اللهِ : }إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي
الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فَاذْكُرُوا
اللهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ
، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ .
وللمزيد من الخطب السابقة
للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120
|