توبة صادقة
16
– 4- 1441
الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، أحمده تعالى وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأعوذ به من الشرور والخطيئات، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له غفار الذنوب وستار العيوب، وقابل التوبة ممن يتوب، فسبحانه من إله كريم تواب، يحب من عباده كل متطهر ويغفر لكل أواب .
وأشهد أن نبينا محمداً عبدُ الله ورسوله، ومصطفاه
وخليله، سيد المستغفرين والتائبين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله وسلم وبارك
عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى التابعين ومن
تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد :
فيا أيها
المسلمون: اتقوا ربكم وأطيعوه، وراقبوه ولا تعصوه، وتوبوا إليه واستغفروه.
أيها المسلمون: تخلف الصحابة الثلاثة
الكرام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلم يخرجوا معه، بدون عذر لهم،
فكان تخلفهم ذنباً كبيرة عظيماً، ولكنهم اعترفوا بذنبهم، وصدقوا في توبتهم لله، فتاب
الله التواب الرحيم عليهم بعد تأديب وتطهير بالهجران المجتمعي.
وبعد أن ذكر الله الحادثة
في آخر سورة التوبة، يأمر الله تعالى أهل الإيمان بالصدق في الأقوال والأفعال والأحوال
عامة، وبالصدق في التوبة خاصة فيقول تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ))
عباد الله: وإن من أروع
وأوعظ قصص التوبة الصادقة: توبةَ تلك المرأة المؤمنة الصحابية الأزدية الغامدية رضي
الله عنها.
حيث إنها كانت امرأةً
ثيباً، وفي لحظة من لحظات الضعف البشري والإغواء الشيطاني، انساقت وراء شهوتها، ووقعت
في فاحشة الزنا.
لكنها، لما زالت عنها
نشوة الشهوة، وانكشفت عنها حجب الغفلة، التهبت نيران الندم والحسرة في جوفها، وأحرق
تأنيب الضمير في فؤادها، وعصفت النفس اللوامة بداخلها، وارتعد الإيمان في قلبها، فحركها
نحو رسول الله نبي الرحمة والهدى صلى الله عليه وسلم، فجاءت المرأة إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم تائبة منكسرة معترفة بالخطيئة، عازمة جازمة على الاعتراف، متجاهلة ومتجاوزة
جميع العوائق، كخشية الفضيحة والعار، ولوم الناس وتعييرهم، وشدة العقوبة، فعقوبة الزاني
المحصن الرجم بالحجارة حتى الموت.
جاءت الغامدية إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني زنيت فطهرني، إني قد فجرت.
فردَّها رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وقال لها: "ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه".
فَرَجَعَتْ، فَلَمَّا
كَانَ الْغَدُ أَتَتْهُ فقالت: يا رسول الله لِمَ تَرُدُّنِي؟ لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي
كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى من الزنا، فقال
صلى الله عليه وسلم: أنتِ؟ قالت: نعم فَقَالَ لَهَا: "ارْجِعِي حَتَّى تَلِدِى
وتضعي ما في بطنك". ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليا لها، فقال له: أحسن
إليها. فرجعت المرأة، وبقيت تنتظر الولادة أشهراً ولم تبرد معها حرارة الخطيئة ولم
يزل الندم يحرق قلبها.
فلما ولدت، أتت رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالصبي في خرقة.
لم يمنعها حنانها على
طفلها، ولم تمنعها رحمتها ورغبتها الفطرية برعاية وليدها، بل كان هاجسها الأكبر أن
تُطَهَّر من دنس المعصية، وتَقْدُم على ربها نقية من جرمها، وطفلها له رب يرعاه ويرزقه
ويرحمه ولن يضيعه.
أتت بالصبي وقالت يا
رسول الله: هذا الصبي قد ولَدْتُه.
فقال الرحيم صلى الله
عليه وسلم: "إذن لا ندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه .. اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه".
فرجعت التائبة طائعة،
لترضع الطفل سنتين كاملتين .. وكأني بها كلَّ يوم ترضع فيه ولدها يزداد الحنان في قلبها
عليه وتكبر الرحمة به، ولكن يقينها بلقاء ربها وخشيتها التي ملأت قلبها، وإنابتها الصادقة
إلى الله كانت أقوى من العواطف العواصف.
فلما فطمت الغامدية
صبيها أتت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم راجية ألا ترد، وينفذ بها الحد، لِتَتَحَقَّقَ
توبتُها، وتُكَفَّرَ خطيئتُها.
جاءت بالصبي وفي يده
كِسْرَةُ خبز، لِتُبَيِّن استغناءه عن حليبها، فقالت: هذا هو يا نبيُّ الله قد فطمته
وقد أكل الطعام.
عندها أَمَر النبي صلى
الله عليه وسلم بِالصَّبِيِّ فَدُفِعَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يكفله، ثم
أمر بها فَحُفِرَ لها إلى صدرها وشُدَّتْ عليها ثيابُها، وأَمَرَ الناسَ فرجموها.
وأثناء الرجم، وقع شيء
من دمها على خالد بن الوليد رضي الله عنه فسبها خالد، فسمع نبي الله صلى الله عليه
وسلم سبه إياها، فقال: "
مَهْلًا يا خَالِدُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً
لو تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ له ".
والمكس مِنْ أَقْبَح
الذُّنُوب الْمُوبِقَات، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ خصوم صاحب المكس يوم القيامة، وكثرة الآخذين
من حسناته؛ لكونه قد ظلمهم وأَخْذ أَمْوَال بِغَيْرِ حَقّهَا.
فلما ماتت التائبة،
صلى النبي صلى الله عليه وسلم عليها، فقال عمر: يا رسول الله تُصلي عليها وقد زنت؟
قال: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
، لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
لَوَسِعَتْهُمْ ، وَهَلْ وَجَدْتَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا ".
الله أكبر، ما أصدقها من توبة، أي قلب، وأي إيمان
تحمله هذه المرأة، لقد بقي العزم على التوبة في قلبها ثلاثة أعوام تقريباً لم يضعف
حتى جادت بنفسها لله تائبة منيبة ثابتة.
عباد الله: يحق لنا
أن نتساءل: ما سر ثبات هذه المرأة على التوبة؟
سرها والله تعالى أعلم هو: اليقين والخشية.
إنه اليقين بالله كأنها
تراه، واليقين بالآخرة كأنها تعيش أحداثه، اليقين بالحشر والحساب والجزاء والميزان
والصراط كأنها تعيشها، واليقين بالجنة كأنها واقفة أمامها ترى أهلها يتنعمون فيها،
واليقين بالنار كأنها واقفة أمامها ترى أهلها يعذبون فيها.
وهذا اليقين أثمر لها
خشوعاً وخشية وإنابة، وصدقاً في التوبة أدام الندم والحزن في قلبها.
قال الحسن البصري رحمه
الله: "ما أيقن عبد بالجنة حق يقينها، إلا خشع ووجل وذل واستقام واقتصر حتى يأتيه
الموت".
وكذلك يقال في اليقين
بالله واليوم الأخر.
واليقين هو رسوخ العلم
والإيمان في القلب وكأن صاحبه يرى ما يؤمن به رأي عين.
واليقين من الإيمان
بمنزلة الرأس من الجسد، بل إن اليقين هو الإيمان كله، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه.
فمع اليقين يكون صدق
التوبة، ويكون المؤمن دائم الذكر لذنوبه وكلما تذكر ذنوبا معينة حزن وخشي وخشع وأناب
قلبه وتاب.
يقَول عبدالله بن مسعود
رضي الله عنه: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ
يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ
عَلَى أَنْفِهِ" رواه البخاري
ويقول الحسن البصري
رحمه الله: إن الرجل يذنب الذنب فلا ينساه وما يزال متخوفاً منه حتى يدخل الجنة.
فاللهم
ارزقنا يقيناً يثمر لنا خشوعا وخشية وإنابة وتوبة صادقة. اللهم
اكتبنا في أحبابك التائبين اللهم تب علينا وعلى التائبين . اللهم صل وسلم على نبينا
محمد وعلى آله وصحبة أجمعين .
الخطبة
الثانية
الحمد
لله حمداً كثيراً طيباً مبارك فيه كما يحب ربنا ويرضى ، والصلاة والسلام على النبي
المصطفى والرسول المرتضى محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه وكل من اقتفى ،
أما بعد :
أيها المسلمون: ربنا الرحمن الرحيم
الوهاب، الغفور التواب، يحب التوابين، ويفرح بتوبة المذنبين، ويفتح أبوابه لهم، ويتقرب
منهم أسرع من تقربهم، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب
مسيء الليل.
ينادينا ويأمرنا ((يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا))
((وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ
جَمِيعًا أَيٌّهَا الـمُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ))
ويفتح باب الرجاء للمسرفين:
((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ ))
فلماذا يا عباد الله
نتباطأ عن التوبة من الذنوب.
مقتضى الإيمان، وكرم
ربنا الرحمن، أن نستحي من كرمه، فنبادرَ إليه بتوبة صادقة وإنابة.
على كل مؤمن أن يتذكر
ذنوبه، ويبكي على خطيئته، ويندم على صغيرها وكبيرها متذكرا عظمة وجلال من عصاه، وعليه
أن يقلع عنها عازما على ألا يعود بصدق وإقبال قلب.
((وَلَقَدْ فَتَنَّا
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ
الْكَاذِبِينَ))
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ))
فالبدار البدار بالتوبة
والاعتذار والاستغفار، قبل حلول الأجل وانقضاء الأعمار، فربكم غفار.
اللهم
ارزقنا توبة صادقة نصوحاً . اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب
إلا أنت، فاغفر لنا مغفرة من عندك وارحمنا، إنك أنت الغفور الرحيم . اللهم اغفر لنا
خطأنا وجهلنا، وإسرافنا في أمرنا، وما أنت أعلم به منا، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدِّنا
وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا .
اللهم
أصلح قلوبنا أجمعين ، اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها
ومولاها . اللهم إنا نسألك قلبًا سليما ولسانًا صادقا ، ونسألك من خير ما تعلم ، ونعوذ
بك من شر ما تعلم ، ونستغفرك مما تعلم إنك أنت علام الغيوب . اللهم إنا نعوذ بك من
شر ما عملنا وشر ما لم نعمل. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا
دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادةً
لنا في كل خير ، والموت راحةً لنا من كل شر .
فاللهم
يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم أعز السنة وأهلها في كل مكان اللهم قو أهل السنة
وكن لهم عوناً ونصيراً ومؤيداً وظهيراً . اللهم كن لهم ولا تكن عليهم وأعنهم ولا
تعن عليهم وامكر لهم ولا تمكر عليهم . اللهم ارحم ضعفهم وتولَّ أمرهم واجبر كسرهم
وعجّل بفرجهم ونفّس كربهم، اللهم أحقن دماءهم واستر عوراتهم وآمن روعاتهم اللهم
وارحم ميّتهم واشف مريضهم وأطعم جائعهم واكسِ عاريَهم واحمل فقيرهم وثبت أقدامهم
يا أرحم الراحمين.
اللهم
ودمر أعداءك أعداء الدين والملة. الذين يقاتلون أولياءك ويكذبون رسلك ويسعون في إطفاء نورك، وأنت المتم لنورك ولو كره
الكافرون، اللهم عليك بهم إنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل بهم نقمتك وأرنا فيهم
عجائبك اللهم إنهم آذونا في بلادنا وفي إخواننا وفي أموالنا، اللهم إنهم حاربوا
دينك ومن تدين به ظاهراً وباطناً اللهم سلّط عليهم من يسومهم سوء العذاب يا قوي يا
متين، اللهم أنزل عليهم رجزك وعذابك إله الحق
يا قوي يا عزيز .
اللهم
اغفر لموتى المسلمين ، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم وأكرم نزلهم ، اللهم
جازهم بالحسنات إحسانا وبالسيئات عفواً وغفرانا . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة
حسنة وقنا عذاب النار . ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في
قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم . ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على
المرسلين والحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121
|